ليست ريشة على رأسه، إنما السماء! السهم أقوى من الرصاصة. إنّ البدائية في مثل هذه الحالة هي للتأكيد على أن صاحب الهوية والأرض أقوى من الحقيقة والحديد. لم أعلم يا حبيبي أن موعدنا الأوّل سيكون الجنازة. من المؤلم حقاً أن يكون المرء إنساناً. قال بعض الرعاة من جماعة حقوق الإنسان: نعلم أنه يجب على المجتمع أن يساعدكِ في تخطي ما أنتِ فيه، اسمحي لي أن أساعدكِ بصفتي ممثلة عن هيئة حقوق الإنسان. قالت زوجة الشهيد: لكنك شخص واحدٌ.. صدّقيني لديّ مجتمع رائع، كان ليكفيني طول العمر، إنه زوجي الذي قتلتموه. الصحة يكملها المرض، كل شيء يكمل كل شيء، وعرسي أكملتهُ المقبرة!

من أعمال الفنانة دينيس كارابينوس

نفس الضوء لكن المصباح مختلف الآن. وعلى ما يبدو أن العتمة خلفه كانت الحرية. نحن ركاب على مركب يغرق ببطء. ربما المركب ليس مثقوباً كفاية، لكن ما في القلب ثقوب تكفي لابتلاع العالم دفعة واحدة، أو لتصفية البحر، وترك الملح على جراحنا. فالمشتبه به هنا ليس القاتل بل القاضي. والإجابات ليست هنا ولا هناك ولا يملكها أحد. حلقة من الجنون لا تعرف بدايتها ولا نهايتها، فالإجابات تختبئ دائماً وراء الكواليس. ضوءٌ واحدٌ صغير يمكنه أن يكون كافياً ليمنعك من الخوف، ومن الظلام. والضوء يمثل الألم.

■ ■ ■


حين كنت في الجامعة غالباً ما كنت أفكر بأمرٍ واحد. كنت أتساءل- وأحاول- ما إذا كان بالإمكان اختراع علاج لطباعنا السيئة، أو لطبيعتنا المدمرة، وكنت أجيب نفسي: أشك بذلك فالبشر لم يخلقوا على يد البشر، وهذا بالذات ليس مصمّماً للبشري على العبث به.
قال الطفل اليتيم سأملأ جيوبي بالسلمون، وأبحث عن دب جائع في الغابة، كل الأرض غابة، وأردف في أذن ممثلة عن هيئة الأمم المتحدة: كل يوم من دونكم هو يوم رائع، أينما وجِدتم بشّرتم بالحرب، والتشرّد والدمار، أينما كنتم حلّ الخراب.
- تعال يا صغيري خذ حبة الحلوى من يدي اليمين
- قال الولد: لكن لماذا لا تعطيني إياها من يدك اليسرى؟
نعم يا صغيري عليك أن تطيع كلام الأكبر منك دائماً، وفي يدها اليسرى هناك رصاصة.
الأسوأ من الشر المطلق هو التباهي بالخير. وتسليط الكاميرات على الضعفاء. يا لهم من «قرطة» جلادين! نواياهم الحسنة تلك، بقرة مسالمة يجرونها بالحبل منذ بدء الخليقة. هذا الكائن المسكين الذي لا يستطيع هضم العشب الضروري لثقافته ولفهمه للعالم. من المضحك أن تصبح هذه البقرة بين كل الرايات التي تنفضّ أمام صوتها : الاحتلال الإسرائيلي، وروسيا، والشعر الحديث، والبلدان العربية، والشيوعية، وما إلى ذلك من هراء. حتى تصبح أنت هذا الثور الثائر على كل خصلة عشب في هذه الأرض، وتعلك الكلام في آنٍ واحدٍ، وتلثغ بالإسمنت، تأكل الألماس، وتسابق الزلزال إلى حتفه. كما أن هذا الثور لا مبالٍ حقاً، وقلبه من النحاس والخزف، ومكسور في آنٍ واحد، أيّ جرة احتواها قلبه؟

■ ■ ■


إسرائيل هذا الأرنب الآلي الصغير الذي يفلت في ميدان سباق الكلاب السلوقية العربية، وتركض خلفه كلاب أهوائنا وصداقاتنا الشرهة، مع العلم أن الكلاب لا تحب الجزر، ولا تأكل ما أكل الأرنب. لا أعلم لم هذا الركض العبثي وراء كتلة البياض تلك بضرسين حادين، وبفرو ناعم وأبيض.
أريد حقاً أن أكون لبقاً ومنمّقاً فيما أقول، لكن لا وقت للصمت الآن، وأريد أن آخذ سيجارة من على موائدهم الطويلة، وأشعل عود ثقاب لكنه مع ذلك ينطفئ، سأشعل واحداً آخر بحذرٍ إذاً، لأن الريح ليست هنا، لكن أصابعي التي كانت ترتجف... أطفأت الآخر.
مدارس للحكم والعبر على مر العصور، نريد شهادة لحسن النيّة نعلقها على حائط مطليّ بالدم وبعض البراويز لقادة سفك الدماء، لنقول لضيوفنا: هذا جدنا الأكبر، ومجدنا، نعم إنه حقاً قاتلنا الأكبر.
الحزن أيها الشريف دائماً، هذه الألوان التي يرسمك الطفل بها في مخيلته، ثم تنسفها القذيفة، هو هذه الزنبقة الجنائزية من أول البحر حتى الصحراء، أيها القداس الطويل من الأسف، ليس بوسع الكاميرات رصدك، ولا بوسع المتفرّجين على موتك غير ذرف بعض الدموع على قبرك، كل المدينة مقبرة! كلا بل كل العالم. بماذا ستنفع النوايا وبماذا يفيد البكاء؟