في زاوية الغرفة بجانب الباب الذي يطلّ على حديقةٍ واسعةٍ وأشجار كثيفةٍ، وعمران قديم يشي بجمال الحياة في الخارج رغم الحطام في الداخل، التقيت بأمك يا محمد في مستشفى أوغستا فيكتوريا في القدس. امرأة في أواسط الثلاثينات من قطاع غزة. كان مرض السرطان قد أنهك جسدها وتمكّن منها، وبينما كانت تعد أيامها الأخيرة، كانت تراقبك واقفاً على النافذة تنتظرها.أنا هنا في الضفة المقابلة لك. أطالعك من نافذةٍ أخرى. يلتف جسدي بشال أمك الذي أهدتني إياه وأشعر بهواء بحر غزة يلفح وجهي. يخيّل لي بأنك لا زلت تقف وتنتظر عودتها... هل أنت كذلك يا صغيري؟ هناك حرب على غزة الآن، ومع أنني أقف قبالتك، إلا أنني أشعر بعثرات قدميك وهي تدق في قلبي، وقد تساءلت البارحة في أي حضن تختبئ الآن. هل تختبئ في داخل الخزانة بين ملابسها؟ هل لا زلت تقف على النافذة تنتظر عودتها؟ وهل هذا مهم؟ لكني أريد أن أعرف فقط: هل أنت حيّ الآن؟!
المعذرة يا صغيري، وصلت الحرب إلى يومها المئة. أتدري، لا أستطيع التنبؤ بنهايتها، ولا أدري إن كان يعنيك انتهاؤها أم لا. خطر لي ذلك، حين شاهدت على شاشة التلفاز طفلاً مصاباً يرتجف، وكان قد احتضر حتى مات. كان الخوف يكاد يبتلعه. هل أصدقك القول، ما يقتلني يا عزيزي ليس موته إنما خوفه. كان خائفاً لدرجة أن إصابته بدت ثابتة، راسخة كالجبال، بينما كان جسمه يرتجف بالكامل. حين كتب الأخوين الرحباني «فبعض أطفال العرب في الحرب يولدون\ وبعض أطفال العرب في الحرب يكبرون» لم يصل خيالهما الواسع إلى أن بعض أطفال العرب سيموتون من الخوف. كان خيالهما يصل إلى الغد الذي يطلّ به الأزرق في الصباح، لكن لم يأت الغد إلا بمزيد من الموت؛ ليس كأي موت، إنه الموت من الخوف في بلاد شبعت من الموت.
انظر يا عزيزي، هالني كثيراً عندما علمت أن مبيعات الأسلحة الصهيونية تقفز إلى أعلى مستوى لها بعد كل حرب تخوضها «إسرائيل». حرب لا يمكن التنبؤ بموعد انتهائها، وأظن أنها مستمرة حتى تغدو الجثث بتحديق عيونها ورجفة أفواهها، كافية لإقناع المشترين في سوق العرض بجودة بضاعة السلاح.


أقول لك ذلك قياساً على حربٍ سابقة، أما الآن فالواقع مختلف. إنّ البيع ليس الغاية، وإني لأظن يا محمد أن ترميم الصورة التي كسرت عن قوة لا تقهر، أثارت غضباً من ظنناه يوماً «مارداً». سألني ابني يوماً، حين كنت أروي له قصة عن مارد: «هل يموت المارد؟». كنت قد أجبته «نعم إنه يموت». لا بد أن يموت يوماً ما. لكن يا محمد، «المارد الإسرائيلي» لم يمت بعد، لكنه باقٍ كمرآة يتناثر زجاجها، وهذا «المارد» يتلاشى.
أتدري يا محمد ماذا يفعل المارد، وقد ثار غضبه؟ إنه يمارس المزيد من التوحش. أقصى حد من التوحش. ولعلّي أقول لك بأنني شاهدت فنّ القتل في جسدٍ واحد. جسد قد تحلل بالكامل على مرأى الجميع. تساءلت يومها لمن قد يكون هذا الجسد؟ من يكون صاحبه؟ ولكن هل هذا مهم يا عزيزي؟ ألا يكفي أن أخبرك عن حذاء هذا الطفل الذي بقي يمسك بعظام قدميه، وقد تحلل جسده فوق سطح الأرض؟ أقول لك إنه وبمرور الزمن، كانت لوحة «حذاء» للرسام فان جوخ مثقلة بالتساؤلات الكثيرة، فرسامها لم يملك ثمن شراء حذاء له. أمّا وحين شاهدت حذاء الطفل الذي تحلل جسده كرهت التحليلات العسكرية، تلك التي تعظّم وتصغّر القوّة، ولا وقت لديها لتلتفت نحو شخوصٍ يرتدون بدلات وياقات براقة، لامعة، تُغسل بالدماء. هل أروي لك تلك الوجوه يا عزيزي؟
حدث أن اكتشف الرجال الأميركيون أن منطقة يقطنها السكان الأصليون يوجد بها ذهب. جمعوا في عام 1864 رجال ونساء وأطفال تلك المنطقة، وهم من قبائل الشايان، في موقع ساند كريك، وقتلوهم جميعاً، ثم في طقوسٍ احتفالية قاموا بتقطيع أجساد الضحايا و«زينوا» أنفسهم بها وساروا في مسيرة أمام العلن! ساند كريك هي غزة اليوم يا صغيري. إنها تذكير دائم بالتوحش «الحضاري». التوحش الذي استبدل الفؤوس بالرصاص. افتعل الحروب، والأوبئة، والحرمان، والتحكم. إنها إبادتنا التي نعيشها من ورثة هؤلاء الذين ارتدوا البدلات الرسمية، بينما كانوا يقتلون الناس ويقطّعون أجسادهم. ساند كريك يشبه وجهنا، وجه العراق وفلسطين واليمن وسوريا. إنها صرخة الأطفال والنساء والرجال التي علت قبل قرنين من الزمن، ويُسمع اليوم صداها في غزة. إنهم أنت وأنا ونحن! أنت الذي تقتل اليوم بصورة «حضارية»، فيتحلل جسدك على مرأى الجميع، طفلاً ذكراً، تموت وحيداً خائفاً بينما تصورك كاميرا. إن «الحضارة» هي التي تقتلك.
هذا الشكل «الحضاري» لهو الشر الذي يسكن البشر. «الحضارة» يا عزيزي قوامها الطمع، ووسيلتها التوحش، ووجها البريء حقوق الإنسان. وحيث يرتكب المجرمون «تحت قبة السماء الزرقاء والشمس المتوهّجة، أبشع الجرائم» كما تقول لينا الحسن. إنه التوحش بعينه. «مارد» يقتل تحت الشمس المتوهجة. وإنني يا عزيزي، أتخيل بوضوح، أن هذا يطرح أسئلة فلسفية ووجودية، حول التوحش الحضاري، وهو يحتاج إلى تحليل على غرار التحليلات العسكرية.
وقد قلت في نفسي بأن مبدأ الدم كالتالي: «إن الفلسطيني الجيد، هو الفلسطيني الميت». لم يكن ذلك فطنة مني، فقد قالها يوماً الجنرال فيل شيريدان: «الهندي الجيد الوحيد، هو الهندي الميت». كيف يمكننا أن نحلل ذلك عسكريّاً؟ هل يمكن ذلك؟ أم يجب أن ننظر إلى حذاء صغير لنحلل توحشاً وضعنا جميعاً كهدف للموت.
أنت جيد حين تموت، هكذا يقولون. موتنا مشاع لألف موت من جوع، ومرض، وتقطيع، وتفتيش، واقتحام، ومعتقلات، ومستوطنات. لقد أصبنا باليأس لكن «اليائسون هم المبدعون» كما قال محمود درويش. وحين طرح سعيد الناشف مفهوم «اليأس الاستشفائي» فقد طرحه في سياق انعدام الأمل الذي أجبرنا على قلب الصفحة والبدء من الجديد. فمتى يا صغيري، وكيف نصل إلى حالة من «اليأس الاستشفائي»؟
انظر يا عزيزي، إن مجنون حارتنا ينطق هذه الأيام بأجمل اللعنات. إنه يفعل ذلك كل صباح. لعنات جميلة يوجد بها عيب وحيد، أنها ببساطة ليست عمليّة، فهي جلجلة سرعان ما تتناثر في الهواء. يا الله، حياة بلا مقاومة ليست حياة على الإطلاق. ولأجل هذه العبارة: «حاضر سيدي» التي فرضت إدارة السجن على الأسرى أن يردوا بها على سجانيهم، حينما اتخذ الأسرى قرار الإضراب عن الطعام في معتقل كفار يونا في عام 1969 حيث قاموا بتجويع أنفسهم لأجل كرامتهم. هكذا هي الحياة، ولهذا نقاوم. إننا نقاوم لأجل حياة ولا ننادي بالموت، فنحن لسنا جيدين ليسير علينا مبدأ «الفلسطيني الجيد، هو الفلسطيني الميت».