القماشة التي يلفونها على عينيك ساعة الإعدام، إنه التمرين الأخير على البصيرة. أن يموت في أي وقت، هو ما نسميه إنساناً. كل شيء معدّ لقتلك، وأنت مُعد تلقائياً لإكمال الجنازة. أن لا تملك الغد فذلك ما أسميه الحرية؛ أنت رهن ما تملك ولا تملك شيئاً سوى الحاضر. إنّ الذي يجمع بين السجّان والسجين هو الزنزانة، الداخل هو الخارج والعكس صحيح.عندما لم تعد تشعر بالخوف أو بالبرد فأنت بالكاد تشعر بنفسك. تكاد تقسم أنك كنت موجوداً. لتوفير الأكل عليك بالادخار، ولتوفير الطاقة عليك بالتقنين، ولتوفير الذخيرة علينا بتعذيبكم وبقتلكم أحياء. ما الأسوأ حقاً، أن يصلك خبر بأنك سوف تُعدم أم الإعدام بذاته؟ إذا وضعت مرآة أمامك كيف ستنظر إلى نفسك؟ ستتذكر ملامحك البريئة كزهرة على المنحدر، ستبدو كمعلّقة من الجاهلية، ووجهك كبركة ماء مجعّد إثر التجذيف اليومي للحياة أو كسطر أخير من سيمفونية. ماذا كنت قبل ذلك؟ ما تهمتك؟ يقول السجين الأول «إنني من عائلة أخي الهارب من العدالة». من الذي سمّاها عدالة؟ وهل العدالة عادلة، وما مفهومها؟ نكتة أبدية وتبرير للقتل. هل الميت يحمل معه الندوب أم سوف يكون هو الندبة في حياة الذين تركهم بعد موته؟ تعيش الندوب أكثر من الإنسان.


هذا أنا سيدي القاضي. إني أمامك أمضغ الكلمات بدل العلكة للتقليل من نسبة التوتر. هذا هو الفرق بيني وبينك. أنت تستطيع التفكير بالغد أما أنا فلا يمكنني، وسوف أورث أمي جرحاً أفقياً في قلبها يشبه الغروب، ولسوف تعيش بعد إعدامي حتى موتها. لا أريد الموت كالحيوان. أريد أن أفهم سيدي. بأخذك الأمور على محمل الجد فأنت تعتقد نفسك خالداً، وهذا من أسوأ الأمور. ربما بعد موتي سيبكي الكثيرون، ربما سوف يحالفهم الحظ بأن تصير البلاد بلاداً، لكنني أنا من سيموت في النهاية. حتى تنفيذ حكم الإعدام فإني أعامل جسدي على أنه جسد لشخص آخر، إذ هو كثير التعرّق، وفانٍ، وسريع النسيان. ربما هذا العالم ليس ضرورياً لأمثالنا. أما صديقي الذي صدر في حقه حكم الإعدام، فقد كان مصاباً بالحمى وبرعشة قوية تشبه الزلزال. ربما كان يدافع عن نفسه وعن بؤسه بدرجات حرارته العالية، أعتقد أن الحمى كانت تحميه ولو اختفت لكانت الأمور أكثر خطورة.
يستدعينا الضابط ليلاً ويفتح التحقيق. ينفث الدخان في وجهي ويحملق فيه كقاتل. لم يكن يخيفني حقاً، فماذا سيخيف رجلاً حُكم عليه بالإعدام عند الصباح؟ كان الضابط جدياً، لكنه غير مقتنع بجدّيته. حطت ذبابة على أنفه، فتبدل المشهد ورحت أضحك. زاد غضبه وسألني: أين هرب والدك الثائر؟ أقول له لن أخبركم ولو كلفني الأمر أن تصلبني على مدخنة. أستدرك سريعاً أن الأمر جديّ: «آه، إنه في مخبأ، إنه في مقبرة، يطلب يد عروسته هناك». فيتحرك سريعاً ويأخذ كتيبة من الجنود، ويهرعون إلى المقبرة، لك أن تتخيل عرساً يُقام في مقبرة؟
يخرجني الحارس من المكتب ويُعيدني إلى غرفتي في الزنزانة ويقول لي ساخراً: «بقي القليل من الوقت»، ثم يقفل الباب. يطلع الصباح ولا صباح. يفتح الباب ولا يخرجني إلى حيث إطلاق النار، هناك جدار تدير ظهرك له، وبطلقتين تغادر ودمك يلطخ الحائط. يسير بي، كأنني في قداس من البنادق، نصل إلى باحة خلفية وهناك أشخاص، أرى عمي الذي سجنوه فأسأله «كيف أبي؟» يخبرني أنهم اعتقلوه البارحة وأعدم منذ قليل بطلقتين. أسأله: «وكيف ذلك؟» قال: «التقطوه البارحة في المقبرة مختبئاً بين الموت والحياة، اختلف معهم على شكل الذي سيكون عليه الغد».
الحرية هي هذا السجن المطلق، حجة العاطلين من العمل. أقول لعمي لا أريد تبنّي وجهات النظر فلندعها يتيمة هكذا يا صديقي، أينما ذهبت تجد الكلام ولا تجد أصحابه، أينما ذهبت أجد صورتي ولا أجد المرآة، أينما كنت أجد البلد ولا أجد الهوية، أينما تسمّرت أجد الخشبة ولا أجد المسيح، أجد الأنبياء ولا أجد الله، أجد الحرية بزنزانة بيضاء كبيرة واسعة، شاسعة، ضيقة كأحذية الفقراء، أجد ما يكفي من الحزن ليمر الليل علينا، أجد ما أجد، وأسأل هل بوسع المرء أن يكون قديساً بلا دين؟ هل بوسع المرء أن يحيا من دون حرية؟ هل بوسعنا ألا يكون بوسعنا، هل بوسعنا أن نصمت وحيدين؟
أقول لصديقي المُحرَر: يجب أن نبقى صامتين كسيارة معطلة أمام مدخل العالم.