هذه المقالة تكتب على وقع أصوات القذائف التي تتساقط في جنوب لبنان.لقد أتقن نجيب محفوظ درس تعاقب الأجيال، ونسج الكثير من رواياته في هذا الصدد. لقد أظهر تأثير الزمن على طبائع الشخصيات، وتبدل الأفكار والتصرفات مع توالي الأيام ضمن البقعة الجغرافية نفسها. ومنها ملحمة الحرافيش وفيها عشر حكايات، تبدأ بحكاية عاشور الناجي، وقد أطلق عليه لقب الناجي لأنه شاهد في رؤية أنه يتوجه إلى الخلاء اتقاءً من الوباء، وهذا ما نصح به المحيطون به بعد استيقاظه. لم يتجاوب معه أحد، فغادر ليعيش مع زوجته وابنه شمس الدين في مغارة، وبعد ستة أشهر عاد إلى حارته ليجدها خالية، لم يبق فيها أحد. وفي تعاقب الأجيال عدّ واضع علم الاجتماع، ابن خلدون، أنّ للدول أعماراً، وقسّمها إلى أجيال ثلاثة، والجيل الثالث، هو الجيل الهادم، وتكون «العصبية» المسؤولة عن القيام والديمومة، هي أيضاً السبب الأبرز للسقوط والانحدار. بناءً عليه، فإسرائيل، الدولة المزعومة، بعد أن وصلت إلى جيلها الثالث، والعصبية اليهودية التي كانت سبب نشأتها وديمومتها لمدة خمسة وسبعين عاماً، ستكون السبب في تحلّلها، ولمن يريد النجاة منهم فما عليه سوى الاستجابة إلى الرؤية؛ عليه المغادرة قبل سقوط الدولة في عقدها المشؤوم على رؤوس مريديها.
نحن في الجنوب، والأجيال متعاقبة فيه، لقد آمن الجنوبيون بالمقاومة، والمقاومة هنا ليست خياراً من ضمن مجموعة من الخيارات، بل هي الخيار الوحيد، خيار البداهة، خيار التزكية إذ إن الهوان لا يرتقي ليكون أحد الخيارات أصلاً. المقاومة إضافةً إلى السلاح والعمليات العسكرية هي إصلاح وعمليات فكرية. المقاومة ثقافة ولا يعكر صفوها كل ما يُبث من سخافة. إنّ البيت الذي يُهدم في الجنوب يُهدم عنّا جميعاً. إنّ من يستشهد في الجنوب، يموت عنّا جميعاً. يموت نيابة عنّا حتى نحيا. إنّ من يتهمنا ببغض الحياة فقصوره ليس في عدم فهمنا، بل في عدم فهمه الحياة نفسها. ثم إنّ التهميش والتغاضي عن معاناة الجنوبيين، لا يجب أن يجرنا إلى الرد بالمثل، نحو حملة «أنا مش من لبنان، أنا من جنوب لبنان»، فالانجرار هذا -ولو كان محض انفعال، ورد فعل غير مقصود- هو المبتغى، إذ يسهم في تحقيق مطلب الانعزاليين، فيجاهرون بطرحهم، ويبثون عبر شاشاتهم إعلانات تروّج له، وتُقدَّم الفدرالية غلافاً للتقسيم، ليعود زمن الحواجز، وصراع الهُوية، ويصير لكل قسم دولة راعية.
إن العلاقة بين الجنوب وغزة تكاملية، وعلى باب الجنوب وباب غزة ما من عدّاد يحصي التضحيات. كلما كان الخطر محدقاً ازددنا تمسّكاً بالأرض، ولو أنكرَنا العالم. الحزن العارم على فقد الأحبة لا يزول، ولكن يعين عليه الصبر، والإصرار على كل شبر. الفداء، هو ما يُقدّم في سبيل تخليص المَفديّ، والمفدي هنا هو الجنوب، هو الوطن، وهو يستحق التضحيات، مهما كانت جسيمة. وقد كان لافتاً في تشييع شهداء مجزرة النبطية، ترداد عبارة: «لبيك يا جنوب»، فالجنوب ليس أرضاً فقط، هو بحدّ ذاته قضية.