لا تحتاج هوليوود إلى إضفاء أيّ جهدٍ خيالي لابتكار شخصيةٍ خارجة عن طورها، غير منصاعة لقواعد المجتمع، تصلح لأن تكون بطلاً لا منتمياً إلى تقاليد عصره، بوجود شخصية حقيقية مثل هانتر طومسون. الحياة الصاخبة التي عاشها الأخير، والتي ترجمها في الأدب والصحافة، تغدو لتكون فيلماً سينمائياً من صنف «سينما ــــ نوار»: خالداً، فجّاً وساخطاً، يعكُس سيرة صاحبه، من دون مبالغةٍ أو عمليات تجميل. عام 1980، استوحى المخرج آرت لينسن قصة فيلمه «Where the buffalo roam» من شخصية هانتر طومسون، معتمداً المزج بين مجموعة من القصص الصحافية والكتابات الأدبية التي كتبها الأخير ونشرها في مجلات مثل «رولينع ستون» وأخرى في كتب، ليبني على إثرها قصة الفيلم ومزايا الشخصية، وليكون سيناريو أشبه بتوليفة لكل تلك الأعمال، مرتكزاً بشكلٍ رئيسي على روايته الأشهر «الخوف والقرف في لاس فيغاس»، إلا أن محاولته تلك أخفقت.
(رسم: رالف ستيدمان)

فرواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» تشكّل وحدها، مستقلةً عن كل شيء آخر، مادة دسمة لتقتحم العالم السينمائي وتُنتج بصريّاً، لأنها وبغض النظر على قدرتها البلاغية في السرد المشهدي، تُشكل التجسيد الأبهى لعالم طومسون العارم، شخصيته المجنونة، ومواقفه الحادة، الصارمة والمباغتة، التي لا تهادن. عام 1988، وبعد مضي اثني عشر عاماً على فيلم لينسن، قرر المخرج تيري غيليام، أحد أعضاء مجموعة «مونتي بايثون» (Monty python)، والمعروف بأسلوبه السريالي والتراجيكوميدي أن ينجز ما عجز عن تحقيقه كل من المخرجين: أوليفر ستون ومارتن سكورسيزي في الماضي (عام1976 تحديداً، بعدما سمح الناشر بأن تُنقل الرواية «الخوف والقرف في لاس فيغاس» إلى سيناريو وتدخل المجال السينمائي). مع تيري غيليام، تحولت الرواية إلى فيلم؛ «Fear and loathing in Las Vegas» مع نخبة من الممثلين، على رأسهم جوني ديب في دور البطولة، بمقاربةٍ فجّة وعنيفة، تشبه مناخ الرواية ليكون عمله تكريساً واقعياً لمشاهد سريالية عايشها هانتر طومسون وشكلت وقوداً لكتابته الرواية.
كانت التسعينيات فترة زمنية مهمة في تاريخ السينما الأميركية من حيث الهوية البصرية التي سادت. لا يمكن الحديث عن فيلم «Fear and loathing in Las Vegas» بدون التطرق إلى أسلوبه السينمائي. فقد شهدت تسعينيّات القرن الماضي ما يمكن وصفه بإعادة تدوير للأنواع السينمائية والمواضيع ضمن الفيلم الواحد، أو ما يعرف بالكولاج. بات مخرجو تلك الفترة يستحضرون مواضيع وأفلاماً قديمة نسبياً ليجمعوها في لوحة سينمائية واحدة. أوليفر ستون في فيلمه «Natural Born Killers» مثلاً استعمل هذه التقنية، حيث أعاد تدوير قصة «بوني وكلايد» (Bonnie & clyde) ومستوحياً فيلمه من جوهرها. هذه الأسلوبية كانت بالنسبة إلى تيري غيليام قيمة مضافة في العنصر الشكلي، حيث عناصر فيلمه التجريبي «الخوف والقرف في لاس فيغاس» تتأرجح ما بين الوثائقي والـ«road film» وبالطبع، على الكولاج، ليس لأبعادٍ جماليةٍ فحسب، بل كعنصر أساسي في الإحالة، حيث الموضوع الذي يتعامل معه فيلمه يطغى عليه بالدرجة الأولى الطابع الرمزي. من هنا، انطلق غيليام، ليكون مشهده الأوّل في فيلم «الخوف والقرف في لاس فيغاس» عبارة عن استذكار، وهو بمثابة ارتداد لفيلم «Apocalypse Now» للمخرج كوبولا. لقطة لمروحية من السلاح الجوي الأميركي ومن ثم إحداث نوع من التوأمة بين مشهد السباق في فيلم «الخوف والقرف في لاس فيغاس» بمشاهد الحرب الموجودة في «Apocalypse Now». هذا الاستحضار بكل عناصره، ابتداء من لوحة الألوان الموجودة في فيلم كوبولا، حتى موسيقى الخلفية «مسيرة الفالكيرات» للمؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر، تعود غايته إلى إعادة طرح المسألة الوجودية الكبرى: صحّة الحلم الأميركي وحقيقته.
منذ الدقائق الأولى، يضعنا غيليام في صلب صحراء نيفادا الأميركية، في تلك المنطقة الشاسعة التي ارتبطت أشد الارتباط بفكرة الحلم الأميركي من خلال أفلام الويسترن في الخمسينيات والستينيات. صوّر غيليام شخصيته الأساسية ديوك (جوني ديب) وهو يقول بوضوح: «لا يمكننا التوقف هنا، هذه البلاد سيئة» وبذلك إعلان فاضح على انتهاء الحلم. إلا أن هذا التصريح ليس بمفاجئ. فقد استعمل مشاهد أرشيف حقيقية من التظاهرات ولقطات لشعارات مناهضة لحرب فيتنام مثل تظاهرة «Selma» عام1965، بالإضافة إلى مشاهد حقيقية من الأرشيف لتلك الحرب في الدقائق الأولى من بداية الفيلم. موقفه إذاً معلن، وهذا ما يدل عليه الشعار الذي يتصدر الفيلم: «اخرجوا من فيتنام وتعالوا إلى «Selma»»، لتأتي من بعده الصورة المُضادة، مشهد الصحراء حيث تعلن شخصيات الفيلم عن وجهتها: إلى لاس فيغاس. اللافت هو أنه حينما يصل ديوك ومحاميه الدكتور غونزو إلى وجهتهما، وفي مشهد فاقع يقوم على أضواء المدينة وضوضائها وسحرها، يصرّ موظف خدمة السيارات على ديوك للترجل ولأخذ البطاقة. يكرر ما يقوله لديوك إذ يقول: «خذ البطاقة! خذ البطاقة!». هي دعوة مباشرة لديوك للانخراط في حياة المدينة، في الحلم الأميركي، وتبنّي نمطها الرغيد والاستعراضي. ومما لا شك فيه أن مدينة لاس فيغاس، بكل زخرفتها وبريقها، لا تشير إلا إلى معقل الحلم الأميركي، الفسحة التي تمثلها الجنّة الموعودة.
تأتي دعوة ديوك للترجل من السيارة بالتزامن مع اختيار تيري غيليام لكسر النمط الكلاسيكي لحركة الكاميرا وموقعها الذي يقضي بتوسّطها الحدث السينمائي وسيطرتها المطلقة على المشهد، ما يتيح للمشاهد رؤية كل شيء عن بُعد. يفرط تيري غيليام باستعمال اللقطات الملتوية، والمشاهد القريبة أي الـ«P.O.V»، وخصوصاً حين تظهر بكثرة آثار المخدرات الجانبية وعوارضها على شخصية ديوك. وحين تشتد الهلوسات، تنخرط الكاميرا في عالمهم وتشاركنا تجربتهم أكثر وأكثر حتى تصبح الكاميرا مرافقة دائمة لهم من خلال حركتها داخل المكان نفسه وكأنها شخصية من شخصيات الفيلم. كاميرا غيليام في حركة مستمرة. تنظر، تترصد، تفتّش، تتفاعل. لا نرتاح مع حركاتها، نبقى متيقظين، مرتابين، وأحياناً نشعر بالهلوسات. شعورنا هذا مرّده خطورة مدينة «الحلم»، نابع جرّاء تفاعلنا مع حالة الممثلين المضطربة. على هذا النحو، يتماهى تيري غيليام مع هانتر طومسون، يعيش معه حكاية مدينته بكل الخوف والقرف التي تتيحه، ويكون غيليام قد تبنّى مبدأ صحافة الغونزو «إخراجياً» وأكمل مسيرة طومسون سينمائياً. لقد استطاع تيري غيليام أن يعكس مناخ الرواية، ويجسد كل رمزياتها، وبأسلوبه السينمائي هذا الذي أفسح المجال لكاميراته بأن تكون في صلب الحدث، بأن تقحم أنفها وتتورط داخل القصة وكأنها شخصية أساسية تشترك في الفيلم، يكون غيليام، وعلى غرار صحافة الغونزو ورائدها طومسون الذي يعتبر أن الراوي هو بذاته محور الحدث، وليس الحدث نفسه هو الأولوية، وقد نسف بوضوح معايير السينما الكلاسيكية، الأمر الذي يعني أيضاً الانقضاض على التراث الأميركي السينمائي برمته.
لم يكتفي غيليام في الأسلوب فقط، بل ذهب إلى حد أن جعل من فيلمه أداة لإعلان حقيقة الحلم الأميركي. يمكن اعتبار مشهد المؤتمر الذي حضره ديوك ودكتور غونزو هو المثال الأكثر وضوحاً في هذا السياق، إذ يعتبر هذا المشهد فريداً باختلافه السينماتوغرافي عن باقي المشاهد، حيث استعمل المخرج الضوء الخافت والتركيز المُفصّل للأحداث: يحضر ديوك ومحاميه مؤتمراً عن مخاطر المخدرات في لاس فيغاس، ومع تقدم الدقائق تبرز سخرية ديوك اللامحدودة والساخطة من هذا المؤتمر ومن القيمين عليه، فتصوّره الكاميرا من زاوية سفلى توحي بشيء من التهكم، وكأن المراد تحقيقه هو تمثيل لكاريكاتورية هازئة، وفي هذا احتجاج مبطن من قبل غيليام، إذ في مقاربته هذه مناكفة للسلطة، وتسخيف للخطاب الأميركي الذي يبدو ناصعاً وجميلاً في الشفهي إلا أنه يحمل في طياته منفعة ودناءة.
لم يتبنَّ تيري غيليام رواية هانتر طومسون فحسب، بل تبنّى أسلوبها أيضاً. اعتمدها كسلاح مباشر، ساخر، عبثي، ذاتي وغير موضوعي لانتقاد سياسات دمّرت أميركا والعالم، أما الأهم هو في أنه جعل كاميرته «غونزوية»، فيها حارب الميراث السينمائي الأميركي الكلاسيكي كله.