شعرت «إيريس» ربة الخصام والشقاق بالإهانة وامتلأت بالحنق من أرباب الأوليمب بسبب عدم دعوتها إلى فرح «ذيتيس» و«بيلوس» خوفاً من أذاها، واتّقاء لشرها، فقررت «إيريس» أن تنتقم انتقاماً فيه من الأذى والشر أكثر مما خافوا. هذا الانتقام الذي جاء في صورة فتنة تحدثها بين الربات الثلاث: «هيرا»، «أثينا»، و«أفروديت»، بل والأكثر أن توقع بها «زيوس» ذاته، فأحضرت تفاحة ذهبية كبيرة مكتوب عليها جملة واحدة مقتضبة: «إلى أجملهن» ثم ألقت بها أمام الربات الثلاث ما جعل الخصام يقع بين ربات الأوليمب الثلاث، فأخذت كل واحدة منهن تدّعي أنها الأجمل، فاقترحت «إيريس» بخبث أن يحكم «زيوس» في الأمر، ولكن «زيوس» الذي كان أشد مكراً قرر أن يحكم في الأمر أول من يمر أمامهم، والذي كان بالمصادفة باريس أمير طروادة.بدأت كل ربة منهن تسترضيه، وتحاول أن تغريه بالعطايا والهدايا، فكان من «هيرا» زوجة «زيوس» وملكة الأوليمب أن عرضت عليه الملك والسلطة المطلقة، وأوشك أن يعطي التفاحة إلى «هيرا» حتى تدخلت «أثينا» ابنة زيوس من رأسه وربة الحكمة، فعرضت على الأمير «باريس» العلم والحكمة المطلقة، فأعجبته الفكرة وتقدم إليها بالتفاحة حتى خطت «أفروديت» ربة الحب والجمال تجاه الأمير الشاب، ولم تعرض عليه السلطة والملك، ولا الحكمة والعلم، إنما عرضت عليه الجمال، أن تجعل «هيلين» أجمل من في الكون تحبه، وما كان من الأمير إلا أن يهدي التفاحة إلى «أفروديت» ربة الجمال على إيقاع ضحكات شريرة تضحكها إيريس ربة الشقاق، لتحدث حرب طروادة بسبب تفاحة كُتب عليها جملة واحدة مقتضبة: «إلى أجملهن». قد يظن الإنسان الذكي الذي يسعى إلى التعلم أن الأمير «باريس» مخطئ وقد كان من الأولى له أن يختار الحكمة والعلم، أو يظن الإنسان القوي الذي يسعى إلى العدل أن الأجدر كان اختيار السلطة والحكم، لكن أمام إغراء الجمال وغوايته سينهزم الإنسان سواء أذكياً كان أم قوياً.


في كتابه «هذه الشجرة» يعرّف عباس محمود العقاد الجمال بأنه الحرية، فيمكننا القول إن الأمير «باريس» لم ينهزم أمام الحب أو الكبرياء، إنما كان فناناً يبحث عن الجمال في سبيل الحصول على الحرية. يُقارن العقاد في نفس الكتاب بين شكلين من الذوق في تفضيل الجمال بين العرب واليونان مبيناً: «فالترف وحب الظهور بالوفر والراحة قد حبب إلى العرب نماذج البضاضة والرخاصة. فوصفوا لنا أحياناً مثلاً من الجمال الكسل المتثاقل يُعاب في الذوق السليم.
واليونان قد حفظوا لنا تماثيل رشيقة لجسم المرأة؛ لأنهم مزجوها بالرشاقة الغلامية التي كانوا يحمدونها في أجسام فتية الرياضة وألعاب الفروسية». وبالفعل، قد تتعدد التنويعات الجمالية باختلاف البيئات والثقافات وبالظروف الاقتصادية، فنجد مثلاً في دويلة أثينا باليونان القديمة كان هناك ما يشبه الميل إلى الذكاء، فكانت تكتسب المرأة الذكية هالة جمالية، وذلك ما انتقل إلى الملكة الهلينستية «كليوباترا» حيث أضفى ذكاؤها وعلمها باللغات جمالاً مضافاً إلى جمالها الأنثوي، وفي مجتمعات الرعي والصيد تكتسب المرأة القوية أفضلية جمالية عن الضعيفة، فيما يشبه الانتخاب الطبيعي للجمال. ولكن داخل كل تلك التنويعات الجمالية تظل النسبية هي الحكم، ليتدخل الذوق الفرداني في معرفة وإدراك الجمال بشكل خاص، أما ما فعلته «أفروديت» هي أن منحت «هيلين» صفة الإطلاق على جمالها، فأصبحت بشهادة ربة الجمال المثل الأعلى للجمال.
إن تحول النسبي إلى المطلق يضعنا في إشكالية فلسفية قديمة: هل هذا الجمال المطلق الذي حددته أفروديت وخصصته لـ«هيلين» كان استخلاصاً لكل التنويعات الجمالية أم أن «أفروديت» حددته مسبقاً ومنه خرجت كل تلك التفضيلات والأذواق؟ اعتقد الإغريق أن أفروديت -التي يعني اسمها «وليدة الزبد»- أن العضو الذكري لـ«كرونوس» حين قطع في حرب الآلهة سقط في البحر وتجمع حوله الزبد لتخرج «أفروديت» آلهة الجمال والحب في رقة الزبد تكمن بها الرغبة والغواية، وتم تصويرها بيضاء بضة بها رخاوة وانحناءات جسدية، على عكس «فينوس»التي غلب على تصويرها الرشاقة، فنشعر أنها «أفروديت» متطورة بمتطلبات الظرف الموضوعي لتاريخ الرومان الحربي، والذي أضفى على «فينوس» لمحة طفيفة لمحارب. أما بالنظر إلى «عشتار» فيمكن تأويل وقفتها بأنها أشد حربية من «فينوس» وأشد إباحية من «أفروديت»، على العكس من «إيزيس» التي تبدو ملكية وتصوّر متوّجة، فهي الأم والزوجة، والربّة الحاكمة المحبة.
ومن هنا يمكن القول إن الحضارات القديمة ارتأت قيمة الجمال المثال في التعبير عن الصورة الاجتماعية التحتية التي تمثلها المرأة في تلك الحقبة التاريخية، والتي تنتج صورة فوقية مطلقة متمثلة في ربة الجمال التي كانت في حين للجمال والحب، وفي حين آخر للجمال والحرب، أو للجمال والأمومة. هذا ما اقترحته الحضارات القديمة لمحاولة معرفة الجمال المطلق بالتعبير عنه من خلال الأسطورة لتكون بمثابة المثل الأعلى للبشر، وقبل أن ننتقل من الجمال الإلهي المطلق إلى الجمال البشري النسبي والذي تحوّل إلى مطلق متمثلاً في «هيلين» وتجلياتها البشرية، علينا أن نجتاز ذلك الفاصل من الإله المحتجب إلى الإنسان الموجود، فالجمال البشري الملموس الذي يكون قاسياً أحياناً، ومؤثراً دائماً.
«هيلين»: لا ريب أنه أمر عسير أن يكون المرء قبيحاً، وأن يكون مجبراً على الحياة في عالم شديد القسوة.
«مفستوفيلس»: ليس بقسوة أن يكون جميلاً. (جوته، فاوست: الجزء الثاني)
فاوست الذي استطاع أن يحيلنا وجدانياً إلى مأساة الـ«ميدوسا» حيث كانت تلك الجرجونة البائسة جميلة وتعالت على الآلهة بجمالها، بل أغوت «بوسيدون» إله البحر ومارسا الغرام في معبد أثينا المقدس لتكسر «تابو» قداسة الآلهة محتمية بجمالها وسحره، ما يدفع أثينا إلى مسخها بتحويل شعرها الجميل إلى أفاعي سامة، ونظرات عينيها التي كانت تسحر حتى أرباب الأوليمب أصبحت تحول البشر إلى حجر. هكذا هي قسوة أن يكون المرء جميلاً. فهو قادر على إحالة الناظرين إلى حجارة. في كتابها «هيلين طروادة من هوميروس إلى هوليوود» تدلل لوري ماجواير الأستاذة بجامعة أكسفورد على أثر الجمال: «في الكتاب الثالث من الإلياذة يجلس سبعة عجائز عند البوابات السكانية. عندما يرون هيلين، يقبلون راضين خوض حرب من أجلها: لا شك أن الطرواديّين والآخيّين المدججين لا يلامون/ إن واجهوا المتاعب لأمد طويل في سبيل امرأة كهذه». ومع ذلك يغيرون رأيهم على الفور... ورغم كل ما هي عليه، دعوها تغادر على السفن». لبرهة امتلك الجمال سلطاناً قادراً على نقض آرائهم. هذا يتماشى مع وصف «هوميروس» لتلك الصيغة الأخرى من المطلق: الألوهية. فعند «هوميروس» تدرك الشخصيات متى كان أحد الآلهة موجوداً معهم بسبب التغيير الذي يقع عليهم. أما عن قسوة الجمال وأثره فقد نقابلهم في الجمال النسبي، لكن ما لا يمكن أن نقابله في الجمال النسبي ويستلزم الإطلاق هو الكمال.
يُنشد جون ميلتون واصفاً حواء على لسان آدم في الكتاب الثامن من «الفردوس المفقود»:
«ولكنني عندما أقارب جمالها،
تبدو لعيني في أوج الكمال،
وذاتها في غاية الاكتمال،
فأسعى إلى معرفة ما تذهب إليه،
فكل ما تريد فعله أو قوله
يبدو وقد تحلى بأكبر قدر من الحكمة والفضيلة والتكتم،
فهو الأحسن.»
لنرَ الاتصال الشعري الفلسفي بين الجمال/ الكمال/ الاكتمال ما يصل بنا إلى المعرفة/ الحكمة/ الفضيلة. قد يستطيع الباحث عن الجمال أن يدرك الكمال بواسطة أداته المهملة، ألا وهي النقص البشري، الذي نستطيع من خلاله أن ندرك الكامل في حضرته. يكمل ميلتون:
«وكل معرفة عليا في حضورها تسقط انحطاطاً
والحكمة في الحديث معها ينفرط عقدها ويشحب محياها وتبدو كالحمق».
وبالعودة إلى «هيلين» كإشكالية جمالية قاسية، مؤثرة، وكاملة نرى تجليات جمالية لها، أبرزها نورما جين/ مارلين مونرو، والتي يمكن أن نطلق عليها «هيلين» هوليوود، أميركا التي نصبت نفسها «أفروديت» العالم أهدت إلى هوليوود مارلين/ الجمال المثال بعد أن شهد الظرف التاريخي أن أميركا هي الدولة المثال، فأصبح يحتم عليها أن تمنح العالم صورة عليا تمثل الجمال المثال، بل وتأمرهم بالانصياع لتلك الصورة، لكن نورما البشرية لم تحتمل قسوة جمال مارلين أو تأثيرها على حياتها، بل إن الكمال كان صدامياً مع النقص، فأحدث مأساة تراجيديا تموت بنهايتها البطلة تاركة إيانا بلا إجابة عن السؤال هل حدد النسبي المطلق أم العكس.
في مسألة مارلين كانت الصورة العليا للجمال هي الأسبق، فمارلين فتاة شقراء ذات شعر أشقر بوجه بريء لها شامة خفيفة كشامة «فينوس» على خدها ما يجعلها أخف روحاً، ويمكننا القول إن تلك الصورة نجحت في زمنها بل وتجاوزته حيث أن نجمات هوليوود إلى الآن ما زلن متأثرات بأسلوب مارلين، حتى في السينما المصرية كانت هند رستم هي المقابل الصوري لمارلين مونرو ما يدل على أنه، وبالرغم من أن الصورة العليا لجمال مارلين، لم تكن مستقاة من تنويعات جمالية أميركية، بل كانت صورة جمالية محددة بمعيار سياسي لإعلاء صورة ذهنية تجعل من مارلين حافة الحلم الأميركي.
مارلين هي الجمال المثال الأميركي والتي قد يختلف هذا الجمال المثال من مجتمع إلى مجتمع آخر، بحسب القيم التي يُعليها هذا المجتمع أو ذاك، وقد يكون هذا الجمال مصنوعاً بمعايير محددة مسبقاً، أو يكون نتاج الانتخاب الطبيعي كـ«هيلين» التي تجلّت كربّة بشرية للجمال، فيكون الخط الفاصل بين الحرية والقيد هو معيار الوصول إلى الكمال الذي يتحقق من خلاله الجمال المثال.
بجرأة أطلقت على طفلتي الأولى «هيلين»؛ لأنني حينما رأيتها للوهلة الأولى أحدثت هذا التغيير عليّ من أثر رؤيتها، وجعلتني أدرك أنها الجمال المثال، فهي في لحظة الخروج تلك كانت حرة تماماً تتّسع عيناها دهشة وتحمل سؤالاً: بابا.. ما هو الجمال المثال؟