«الخوارزمية» (algorithm) هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية المتسلسلة اللازمة لحلّ مشكلة ما. في علم الحاسوب هي مجموعة من التعليمات البرمجية التي يُنفّذها الحاسب الآلي لتحقيق مهمة معيّنة. وسُمّيت الخوارزميّة بهذا الاسم نسبةً إلى العالِم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي كان أول من ابتكرها في القرن التاسع الميلادي. ومن المعادلات التي تُنسَب إلى الخوارزمي قوله عن الإنسان ذو الأخلاق إنه يساوي الرقم واحد، وإنه إن كان ذا جمال أيضاً أضيف صفر بجانب الواحد (10)، وإن كان ذا مال أضيف صفر آخر (100)، وإن كان ذا حسب ونسب أضيف صفر آخر (1000)، وإن زال الرقم واحد وهو الأخلاق، بقيت الأصفار واضمحلّت قيمة الإنسان. تنطبق هذه المعادلة على المقاومة؛ فالسلاح هو الرقم واحد، والتظاهرات والكلمات والفن، النثر والشعر والموسيقى، أصفار تزيد قيمة المقاومة وتأثيرها، ولكن إن زال الرقم واحد، أي السلاح، بقيت الأصفار واضمحلّت قيمة المقاومة. إن جالت مروحيّة حربيّة فوق المنطقة، واعتلَيت السطح وأطلقت «أوف أوف أووووف»، فلن تسقط الطائرة ولن تبتلع صاروخها. المواويل لا تُجنّبك العويل ولكنّها أصفار بجانب الرقم واحد.


والمفارقة أن جلّ الذين كانوا يدعون إلى المقاومة بالكلمة وأنه ليس من حاجة إلى السلاح، لزموا الصمت، الصمت المطبق: لم ينبسوا ببنت شفة، تجمّدت ألسنتهم، ابتلعوا حروفهم، بالنقاط والتّشكيل، لم ينددوا لا بالإبادة ولا بالتنكيل!
على سبيل المثال، في تغريدة لأحد الصحافيين كتب فقرة من مسرحية عبد الرحمن الشرقاوي -التي لم تُعرض- «الحسين ثائراً»: «أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة في كلمة، دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حرمة، زاد مذخور، الكلمة نور وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فرقان ما بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور، ودليل تتبعه الأمة». وعند اغتيال الصهيوني للصحافي اللبناني عصام عبد الله، ظلّ ساكتاً، لم يُبدِ أيّ إدانة للجريمة. والأسوأ أن الذين أدانوا المقاومة على عملية «طوفان الأقصى» هم بإدانتهم يبرّرون للاحتلال وحشيّته. ما من كلمة تصف فداحة الجرائم المُرتكبة. جَنينٌ مُزّق في رحم أمّه، وأطفال تناثرت أطرافهم تحت الرّكام، عجزة طُحنت عظامهم، ونساء تهاوت أبدانهن، مصوّر ينقل جثة والده بسيّارته ليدفنها، وثلّاجات الآيس كريم باتت مخصّصةً لجثث الضحايا. لا ماء، لا غذاء، لا كهرباء، لا وقود، حصار تامٌّ للمدنيّين العُزّل. لكن الجامعة العربيّة لم تصمتْ طبعاً، فقد قامت بدورها على أكمل وجه إذ أضاءت حائط مبناها باسم فلسطين، وبتقنية تجعله يرقص، يكبر ويتقلّص، كما بدأت القضية كبيرة، ثم تقلّصت في حسابات الدول الأعضاء.
إن حركات المقاومة هي البديل عن الجيوش العربية. عند سؤال تميم البرغوثي عن الثمن الباهظ الذي تكبّدته غزّة بعد عملية «طوفان الأقصى» أجاب: «المقاومة ليست هي السبب، بل العدو هو السبب. ثلثا سكان غزة أصلهم من الأراضي التي احتُلّت عام 1948، الذين هُجِّروا يُقصفون الآن. العدو عندما يزعم أن إطاعته في ترك بلادنا تجلب الأمان يكذب، الذين تهجّروا أمِنوا في صبرا وشاتيلا؟ أمنوا في تل الزّعتر وفي جِنين وغزة؟ كلّ ما يجري علينا الآن هو ثمن عدم انتصارنا عليهم في عام 1948 وعدم انتصارنا عليهم في عام 1967 ، وبالتالي الوسيلة الوحيدة لكي لا يستمر هذا هو أن نواجههم، إذا لم نواجه نتحمّل أكثر مما نتحمله إذا واجهنا، التاريخ يعلّمنا هذا. نعم نحن نحزن على أحبّائنا، لكنّنا إذا سامحنا في ثاراتهم نقتلهم مرّتَيْن، الحزن سلاح في يدنا لا في يد العدو».
في بثٍّ مباشرٍ على صفحته على فايسبوك تحدث الصحافي الرياضي لؤي فوزي عن تغيّر وجهة نظره تجاه النشر على مواقع التواصل الاجتماعي عن القضية الفلسطينية، إذ إنه دائماً ما شعر باليأس وانعدام الجدوى من التعبير الدائم عن التضامن مع عدم تغيّر شيء على أرض الواقع، ولكن عند بحثه أخيراً على وقائع تضامن جماهير أندية منها سيلتيك الإسكتلندي، وأتلتيك بلباو الإسباني، وليفورنو الإيطالي مع فلسطين، وجد صعوبة في البحث وتعتيماً على جلّ الوقائع، ما عدا الصّارخة منها والتي لا يمكن التغاضي عنها، كتلك التي جرت أثناء مونديال قطر، فالتّضامن الواسع، وتجاهل المراسل الصهيوني، والهتافات المؤيّدة للقضية من الملعب أثناء المباريات، ولا سيّما مع وصول منتخب المغرب إلى نصف النهائي، جعلت صحيفة الغارديان تبثّ تقريراً لمراسلها ميخائيل صافي يُعرب فيه عن رفض الشعوب العربية لتطبيع حكوماتها مع الكيان الصهيوني. واستنتج لؤي أنه كلما كان حجم التفاعل أكبر، وُضعت المؤسسات الإعلامية الكبرى أمام مساءلة متابعيها، فيظهر تحيّزها وعدم مصداقيّتها، لتضطر إلى الإضاءة على الحدث الجلل.
يقول المدير السابق لوحدة السايبر الإسرائيلية إريك باربينغ «يقوم الشاباك بجمع كمٍّ كبير من المعلومات عبر استهداف كلمات أو جمل معينة، وبعد استهدافها وتشخيصها يقوم شخص -وليس آلة- بفحصها، والذي بدوره يشاور المستشارين القانونيّين التابعين للشاباك، ويقرر إذا ما كانت هذه الكلمات أو الجمل تنطوي على أهداف «إرهابيّة». نمرّر طلباً رسميّاً إلى شركة «ميتا» ونطلب إزالتها، ويتم التجاوب مع غالبية الطلبات. أبقيتُ بعض المنشورات لأنني جهاز مخابرات، وأريد أن أراقب بأي اتجاه يمكن للأمور أن تتطوّر. نعرف كيفية إيجاد التوازن المطلوب بين جمع المعلومات وبين وقف انتشار المحتوى».
تلتقط الخوارزمية الكلمة، المفردة، مثلاً «المقاومة» تُهمّش «الستوري» أو يُحذف المنشور، يُحذّر صاحبه، وربّما يُزال حسابه، هذا مدى تأثير الكلمة. تُحجب الحقيقة عبر إغلاق صفحات أو تحجب أُخرى عن بلدان بكاملها كحجب صفحة الإنستغرام «eye.on.palestine» عن كندا. الكلمات في المقاومة أصفار بجانب الرقم واحد. ورغم كل الأصفاد تزداد الأصفار، ويزداد تأثير المقاومة.
الخوارزميّةُ هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية المتسلسلة اللازمة لحلّ مشكلة ما، وخوارزميّة فايسبوك تُزيل كلمة «المقاومة»، لكنّ خوارزمية المقاومة هي مجموعة من العمليّات العسكرية المتسلسلة لحلّ كيان ما. في الكتابة على الكاتب أن تكون عينه على الخاتمة مُذْ يبدأ نصّه، وفي المقاومة الخاتمة كانت واضحة مذ بدأت، الهدف واضح وهو: إزالة إسرائيل من الوجود. إنّ المجازر التي تُرتكب في غزة، هي ردّة فعل وحش مطعون، لكنّ الطّعنةَ هذه المرّة -طعنة 7 أُكتوبر- في صميمه، في قلبه، والكيان الغاصب، كيان غاضب، ويُحتضر. «أوهن من بيت العنكبوت» عبارة تترسخ يوماً بعد يوم، و«الجيش الذي لا يُقهر» حقاً تقهقر.