منذ البدايات الأولى للأدب مثل الملاحم والأساطير القديمة، كانت الصراعات تدور بين الآلهة والبشر العظماء الذين تترفع هموهم ومشكلاتهم عمّا يدور في أذهان الناس العاديين. استمر ذلك التقليد في المسرح على وجه الخصوص عبر الاهتمام بالملوك والنبلاء وإهمال الطبقة العامة إلى أن أتى كاتب نرويجي استطاع أن يغير وجه المسرح العالمي بتسليطه الضوء على القضايا الاجتماعية، هو هنريك إبسن. اليوم نحن أمام إبسن جديد يرى في القلق والخوف والضعف الإنساني ما يستحق أن يُصور وأن يُعبر عنه .يون فوسه -اسم لن يعرفه غالباً القارئ العربي ويحق لنا أن نوجه اللوم للقائمين على انتقاء الكتب التي تترجم إلى لغتنا- هو أديب نرويجي، قدم نتاجاً متنوعاً من شعر ونثر ومسرح، وترجمت أعماله إلى أكثر من أربعين لغةً. ابتكر فوسيه أسلوباً أدبياً خاصاً به، كان سبباً في شهرته العالمية. يُنظر إليه على أنه أحد أهم أعلام المسرح المعاصر، وقد حصد عدداً كبيراً من الجوائز في النرويج وخارجها، وأعلنت الأكاديمية السويدية فوزه بجائزة نوبل للآداب في الخامس من أكتوبر الجاري وذلك لـ«أعماله المبتكرة ونثره الذي يمتلك القدرة على التعبير عن ما لا يمكن البوح به» وفق ما عبرت عنه الأكاديمية.
وبالطبع، لقد عبّر فوسه عن سعادته وشكره اللجنة لتكريمها «الأدب الذي يسعى لأن يكون أدباً بالدرجة الأولى من دون أية اعتبارات أخرى». أمامنا أديب نأى بنفسه عن الحروب، والصراعات السياسية والطبقية، والرسائل الأيديولوجية التي يمكن أن تبث عبر النصوص الأدبية.
يُعد فوسيه أكثر كاتب نرويجي تقدم مسرحياته على خشبة المسرح بعد إبسن، كما أن مسرحه قد برز في أوروبا بعد عرض مسرحيته الأولى «أحد ما سيأتي» («Someone is going to come») في باريس عام 1999 إخراج كلود ريجي. المسرحية التي كانت سبباً في إذاعة اسمه وشهرته، فقد حققت له شعبية كبيرة ولاقى عمله استحسان العديد من النقاد، إذ يتمثل موضوعها بالترقب المخيف، والانتظار، وغياب الثقة.

رسم التفاصيل
يهتم فوسه في أعماله بتسليط الضوء على التفاصيل الحياتية اليومية لشخصيات يمكن أن تتسم بنوع من العزلة. تلك الصور التي قد لا يعيرها غيره من الكتاب هذا الاهتمام هي التي تكسب أدبه تلك السمة المميزة. ولعلّ هذا هو ما يميزه عن غيره من الأدباء، فكل صورة يرسمها تحمل مهمة توضيح شعور إنساني يصعب وصفه. فهو يركز في أعماله على اللحظات الفارقة في حياة شخصياته، والتي يمكن لها على الرغم من بساطتها أن تغير مجرى حياة تلك الشخصيات إلى الأبد. ولا تحمل نصوص فوسه صراعاً سيُصار إلى حلّه في النهاية، بل يمكن وصفها بأنها تتالٍ للأحداث سيوصل إلى نتيجة غير مضمونة. هذا ما يؤكده فوسه بنفسه عند سؤاله عن مضامين نصوصه «الكتابة بالنسبة إلي هي رحلة لاكتشاف ذاتي والعالم من حولي في آن معاً وأعمالي لا تقرأ بحثاً عن حبكة».

الحد الأدنى
منذ صدور روايته الأولى «أحمر، أسود» عام 1983، وهي مستمدّة من رواية ستاندل الشهيرة، عُرف عن فوسه استخدامه لأسلوب أدبي فريد من نوعه. لم يتمكن النقاد من إيجاد أسلوب يشابهه، فأطلقوا عليه اسم «الحد الأدنى لفوسه» («Fosse minimalism»). يرتكز أسلوبه على تنقلات زمنية متسارعة، تحيل إلى أزمنة مختلفة بين ماضي وحاضر الشخصية. فربما نقرأ في الصفحة نفسها أحداثاً من الماضي، ثم نعود إلى الحاضر من دون إنذار مسبق. ويقدم فوسه أيضاً عبر هذا الأسلوب تصويراً للأحداث من وجهة نظر أكثر من شخصية، فلا يوجد راوٍ واحد للأحداث، وهو ما يُعدّ علامة فارقة له. يقترب إلى حد ما من أسلوب السهل الممتنع (Spear Writing) وذلك لكونه يستخدم جملاً قصيرة، بسيطة لا تحمل تعقيدات لغوية، تُصاغ بأسلوب واضح بأقل قدر ممكن من التشابيه، ويترافق ذلك مع كون الحوارات التي تدور بين الشخصيات مقتضبة تحوي من الكلمات ما يكفي لجعل القارئ يفهم الموقف.
لقد راح عدد من النقاد لوصف أسلوب فوسه بأنه شعري، له إيقاعه الخاص الذي يشابه الأسلوب الموسيقي، أي إنه متقطع ومنتظم ومتكرر وقوي. يستخدم فوسه تلك الانقطاعات والتوفقات للتعبير عن الضبابية التي يمكن أن يمر بها الإنسان في حياته، لا شيء حتمي عند فوسه ولا يوجد منظور واحد وكل ما تراه عيناك يمكن أن يُرى بمنظور آخر.

جوهر الإنسان
إنّ تميز فوسه يظهر في قدرته على استحضار المشاعر الإنسانية، وجلبها إلى مسرح الأحداث لتصبح بطلتها والناطقة باسمها. لقد تطرق فوسيه إلى العديد من الموضوعات الإنسانية الشائكة مثل موضوع الانتحار، ومعنى الحياة، وجوهر الإنسان، وضعفه وتناقضاته. بدءاً من نصوصه الأولى ظهر تفرّده واختلافه حيث استطاع عن طريق اختزاله الجذري للغة، والتقليل من حضور الأفعال الدرامية التي تصنع الصراع أن يجذب اهتمام المتلقي إلى التجربة الإنسانية التي تمر بها الشخصية، ويجعلها تتحسس الظرف الذي يضعها فيه، وما ينسجه حولها من تداعيات وصعوبات. فوسه يبيّن كيف يمكن للإنسان أن يصبح ضعيفاً، هشاً، يمكن لأي دفقة بسيطة من الهواء أن توقعه في هاوية لا عودة منها. لقد تمكّن بعبقريته المذهلة أن يعبر عن القلق والعجز بأبسط العبارات اللغوية التي نستخدمها في حياتنا اليومية.
بالرغم من أن فوسه قد اكتسب لقب إبسن الجديد، لكن تأثره بنهجٍ آخر من الكتّاب مثل بيكيت ونظرته التشاؤمية للعالم واضح. بيد أن هذا لا يعني أنه يشارك بيكيت بنظرته العدمية وازدرائه للعالم. فقد مر فوسه بتجربة روحانية غنية كان لها أثر كبير على إبداعه الأدبي، إذ إنه مرّ على عدد من الاعتقادات والتجارب الروحية والدينية. هو الذي نشأ في بيئة قريبة من الحركة اللوثرية (البروتستانتية) لكنها لم تتمكن بتعاليمها من الوصول إلى سريرة نفسه، ما دفعه إلى الابتعاد عن أفكارهم إلى أبعد حدود، وراح يصنّف نفسه كملحد، قبل أن يعود ويعتنق الكاثوليكية في فترة متقدمة من حياته. اشترك فوسيه في ترجمة الإنجيل إلى لغة النينورسك، اللغة النرويجية المحكية التي يكتب فيها . هذه الرحلة الطويلة التي تحمل عدداً من التقلبات والانقلابات كانت كفيلة لجعله ينظر إلى المفاهيم المجردة كالحياة، والموت، والقدر، نظرة مختلفة. لقد استطاع أن يعبّر عن تيه الإنسان، وفقدانه للبوصلة، وكيف يمكن لهذا الضياع أن يتحول إلى تجربة عميقة توصله إلى المعرفة الحقيقية .

صباح ومساء
أول رواية نقلت لفوسه إلى اللغة العربية كانت «صباح ومساء» عام 2018. الرواية من ترجمة شيرين عبد الوهاب وأمل رواش وصادرة عن دار الكرمة. «صباح ومساء» منشغلة بالسؤال الأهم: «ما هو معنى الحياة؟». تفتتح الرواية على ولادة يوهانس، والمخاض الذي تعيشه والدته مارتا، ويروي فوسه ذلك الحدث من وجهة نظر الوالد أولاف الذي دائماً ما انتظر هذه اللحظة التي سيأتي طفله فيها إلى الحياة. يفكر أولاف بأنه سيقوم بتسمية ابنه على اسم والده يوهانس، وأن هذا الطفل الصغير سيصبح صياداً كوالده. ثم ينتقل بنا فوسه إلى يوهانس وهو رجل عجوز أرمل يعيش في بيته البارد البسيط، وللمرة الأولى منذ مدة بعيدة يستعيد طاقته فيجد نفسه أقوى من قبل. كل شيء كما هو ولكنه في الوقت ذاته قد تغير. يخرج من منزله فيلتقي بصديق له هو بيتر (لكن هذا الصديق في الحقيقة متوفى)، يصعد معه في رحلة على متن قاربه، هذه الرحلة تعيد إلى يوهانس ذكرياته، وتمر بمنعطفات مميزة من حياته، فمثلاً يعود ليعيش اللحظة التي التقى فيها زوجته التي يشتاقها كثيراً إرنا. عند مشارف نهاية تلك الرحلة يرى ابنته الصغرى سينه ويحاول التحدث إليها، لكنها لا تسمعه بل تمر عبره، وهنا ننتقل مع فوسه لنرى الأحداث من وجهة نظر سينه التي ستكتشف أن والدها الحبيب قد توفي، وهو أمر محزن بنظرها لكنه حدث، لتنتهي الرواية مع العودة إلى يوهانس، في رحلة مختلفة يقومها مع بيتر، إذ يخبره أثناءها بأنه رحل عن الحياة، ليبادر يوهانس بالسؤال: «إلى أين سنذهب؟» فيجيبه بيتر: «إلى اللامكان».

الزمان دائري، المكان العالم
لا يستخدم فوسه في رواياته مرجعيات تحول دون عولمة نصوصه. فهو يكتب عن الإنسان بالدرجة الأولى وما يقاسيه من متاعب في الحياة. الحياة التي تنتقل من العدم إلى العدم. يستخدم فوسه لغة محلية (لغة النينورسك وهي أحد الأشكال المكتوبة للغة النرويجية) لكتابة نصوص أدبية وصلت لجميع أنحاء العالم. لقد جمع بين الروابط المحلية، والصلات الجغرافية الخاصة بالنرويج والعالم، متأثراً بتجربته الشخصية. فقد كاد أن يفقد حياته وهو في السابعة من عمره جراء تعرضه لحادث خطير. تجربة جعلته ناطقاً معبراً عن ماهية الحياة وسهولة حدوث تحولات جذرية فيها بطرفة عين، الأمر الذي خلق لفوسه بصمة إبداعية تتكامل مع تقنياته الأدبية المميزة.
يمكننا أن نرى جلياً أننا أمام مرحلة مميزة من الأدب العالمي. مرحلة تطغى فيها التجربة الإنسانية الخاصة، والتي بقدر ما ترتبط بشخوصها بقدر ما هي معولمة. كتابات ليست موجهة إلى مجموعة بشرية محددة تنتمي إلى بلد أو عرق أو دين معين بل إلى البشرية جمعاء. ليس المطلوب أن نناقش قضايا عالمية لنكون عالميين. إن في التجربة الشخصية في حال رصدناها وتحدثنا عنها بصدق وبأدبية سنكون عالميين. شرط تلك الكتابة أن تكون بالدرجة الأولى موجهة إلى الإنسان بوصفه إنساناً، في كل زمان ومكان.