أراد ابن حزم الأندلسي أن يُخصص باباً للحب يدركه الذكي الفطن، فجعل العين باباً له، لأنها تحبس التصورات في مساحة رمادية بين العقل وتمثلاتها في الحقيقة. حينما يغيب أحدنا في أحلام يقظته البعيدة أو في حلم قريب للتحقق، فإن ترجمة التصوّرات الذهنية إلى حيّز واقع تعجز أمام سلطة العين التي تحرس الواقع من أن يفسد تماماً، بحقيقة واحدة: أن يُصدّق أحدنا أنه رأى خيالاته واقعاً فعلياً. العين بدورها عضو استثنائي يجمع الجودة بالنقصان مقارنة بأعضاء الجسد الأخرى، من حيث الارتباط المباشر مع الشيء. يمكننا أن نسير بأعيننا أيضاً، سواء واقفين أم مترجلين، لأن كل تمشيطة بالعين على مدى الأفق فيها أمل في ترك أثرٍ شخصيّ، ولو خُطوة واحدة، ومحاولة تحقيق هذا هو محاولتنا في البقاء. ما بين الرغبة والحقيقة، تسبح العين في عالم كبير -عبر سماتها الاختصاصية والمحددة والمنتقاة- وعندما تباشر في اختبار لحظة استثنائية، فإنها تبحث عن بيانات أكبر لقراءة المزيد من المشهد، ووقتها تبدأ بالتحديق.

آدم لبتون

لا يتوقف التحديق عند حالة أحادية في المدلول. فمثلما يعني طول النظر إلى الشيء والإحاطة به ومحاصرته، ورُبما النفاذ بداخله بحثاً عن الكشف. عندما لا يتأتى شيء من البحث العادي واليومي، فإننا نُحدّق من وقتٍ إلى آخر عند التورّط في الكارثة، ولا نُحدّق أبداً ونحن مُطمئنون، سُعداء، لأن المزاج الثاني زاهدٌ عن بقية العالم، بعيداً عن هدوئه الداخلي، بينما المزاج الأول يمتاز بحلاوة روح الرغبة في البقاء. نُحدّق كترجمة لمشاعر كثيرة مُختلفة لكننا في المقام الأول، نُحدّق لمعرفة شيء يُمكنه تغيير أي شيء.
أثناء التحضير الأولي لهذا المقال، لم تكن لديّ مواد مرجعية أدبية يُمكن العودة إليها لتعزيز موضوع مقالتي، أو تحديداً، لتناول الحكاية الكامنة والمكثفة في التحديق عبر حكاية أخرى. فكّرت أولاً في رواية «العمى» لساراماجو، لكن عزّ عليّ أن أكتب عن شيء أصله العين، ذلك العضو النبيه، عن طريق السلب/ العمى، إضافة إلى أن الأخير في عالم سارماغو كان حليبياً أبيض، ساذجاً وأبلهاً، وكنت كقارئ أستبق الشخصيات بميزة البصر، كنت أعرف كيف أتنحى جانباً ولا أدوس على البراز.
وجدتُ ضالتي في اقتراح المحرر لقراءة رواية «النفق» للأرجنتيني إرنستو ساباتو. رغم أن «خوان بابلو» في الرواية كانت حياته قاتمة، يستخفّ بسهولة أن تكون الحقيقة ببساطة توقعاتنا، لذلك فقد بحث عن طبقات التركيب في حقائق الحياة عن طريق الرسم. هذه شخصية أدبية لها حضور كبير، ليس لعكسِها جودة أدبية في البناء فقط، لكن لأنها مناسبة للوقوع في ورطة الاشتباك معها. لأن اختلاف «بابلو» اللافت فخّ غير مبتذل للقارئ، وهو اختلاف حقيقي لافت رغم أنه لا يسعى لشيء، وسوء الظنّ الكامن فيه تجاه الناس يمتاز بمنطق وبرغبة لذلك كان التحوّل في حياة «بابلو» مبرراً؛ أن يحدّق في لوحته ويرى وراء أحد نوافذها شيئاً جوهرياً مختلفاً، حدّق فيه «بابلو» لوحده أولاً، ولم ينتبه إليه أحد، لا مُتفرج ولا حتى أحد النقّاد الذين يكرههم جميعاً كمبدأ. حينما تنظر «ماريا» أخيراً في جزء النافذة الذي يهتم به الرسّام، تكون تحديقتها محطة ثانية في خلق ثنائية قائمة على الكشف والتورّط. فجّر فعل التحديق علاقة بين عالمين يكمن بقاؤهما في صراع بين مركزي قوى. فالأول يبحث عن إعادة إنتاج ذاته بالآخر والثاني يتمسّك بالمراوغة لأنه يفسد ما اكتشفه. تتجلّى سلطة التحديق كأنه فعل أبديّ. بدأت عين «بابلو» تحديقة طويلة، باحثة عن «ماريا»، أو بشكل ما، عن القراءة النافذة الوحيدة للوحته، وعن كسر رتابة الحقائق بإحالة المتخيّل إلى عالم الوقائع. عندما تعترف «ماريا» برؤية الجزء المعني من اللوحة، يبدوا لـ«بابلو» أن انطباعه تجاه الأشياء يختلف، يُصبح أكثر بساطة، وللناس قُبول عنده مرة أخرى. في البدء أصبح لدينا فنّان سعيد، لكنه سيُفاجأ لاحقاً بصفعة على الوجه، تُنذر بوقوعه في شرك الكشف، هناك مركز قوى آخر لديه سلطة، فنظرة في اللوحة تكشف عمقاً ما، هي نظرة إلى الداخل الهشّ للفنّان ذاته.
على امتداد الرواية، كُنت أسير مع فعل الكتابة وحكي «بابلو» بعيني، إذ تنكشف المشاهد مُتتابعة، التعرّض لبيانات المكان يأتي مقروءاً بالنظر. هناك مساحة خوف وقلق في الحكي من التعرّض مباشرة للأشياء، للحياة بكُل تمثيلاتها. يتحقق الحكي من بعيد مبدئياً، ففي هذا المقام هناك قراءة مُطمئنة، غير مُحدّقة، ولا تستبشر القلق، لكن التواجد المديني بعين تنظرُ من بعيد، يظلّ ناقصاً، ولذا فإن «ماريا» تعترف، وتُقحم «بابلو» ليغرز بقدمه في الشِرك: تُخبره بعد انتظارٍ طويل «وأنا أفكر فيك أيضاً»، وهذه رسالة صغيرة يُمكنها تغيير عالم كبير.
محاولة الاقتراب أكثر من الزمن الفارق، في أي حكاية، الذي تتغير الأشياء عبره بسرعة وفجأة، تجعلُ لحظة الاعتراف بقيمة تفكير «ماريا» لدى «بابلو» هي حدث شخصي كافٍ، درجة أن يستسلم لأي تغيّرات، حتى ولو كانت تغيرات مُهلكة، وهذا قد ما حدث بالفعل، تحوّلت تصوّرات «بابلو» ووجوده حصرياً لصاحبة الاعتراف لأنها تحملُ منه كثيراً في تحديقها عبر اللوحة. وهو بدوره يريد إزاحة هذه الأشياء إلى وعيه الشخصي لكن أفخاخ التوقّع والخطأ والاستقراء القصديّ جعلت عالم «بابلو» مُركّباً، يبحثُ عن نقاط نهاية في مدى أنثوي واسع ومُفعم بالتناقضات. عندما تغيبُ «ماريا»، تغيبُ أصالة المشهد، وبشكل ما يغيب عالم «بابلو» جزئياً، يصاب بالضباب، ويبدوا الخلل الكبير في القدرة الذاتية على التحديق.
ما بين وقوف «بابلو» الهادئ والكئيب بين «ماريا» والبحر، يفقدُ الأول بوصلة وجوده، يُصبح وجوداً مسحوباً بطواعية كلب مُخلص، لأن العودة بخفَّي حنين يرسّخ «ماريا» في الذاكرة أكثر. ليست أي «ماريا»، فهي معنيّة هنا بالسيدة الجميلة، التي كانت تنظر إلى النافذة في اللوحة، استثناءً عن بقيّة الناس. تناور «ماريا» بدورها، لأنها تخشى التورّط، لكنها تركت بذرة فاسدة وضرورية بالفعل. تركته وأصبحت حالة جامعة مفتوحة على العالم، ليست مُحدّدة بمدلول الجنوسة، فالعين إشارة للحياة الأولى والتحديقة الأولى، كما أن العالم بدوره يناسبه أكثر من أن يطوى في أمثولة أنثى.
كانت نهاية «بابلو» مُتوقّعة ومخيفة في آن. ورغم أنها كانت ضرورية، وضريبة السماح بالتحديق كبيرة، إلا أن نهاية صراع تحديق متبادل لا بدّ أن ينتهي بانتصار أحدهم، أو بخسارة الاثنين، وهذا ينطبق على التحديق المتبادل على المقهى سُخرية، تحديق حبيبين، وكذلك الأعداء، وحتى تحديق الأدب مُتمثلاً في الخيال أمام وجه الحقيقة. مع فقدان «ماريا»، لم يستعيد بابلو وجوده الأول بل غاص من داخلٍ أوّل إلى داخلٍ ثانٍ جاء أكثر عمقاً، وتلمّس نفقاً شخصياً موغلاً في العُمق، له اتجاه واحد نحو الهاوية، وليست على جدرانه أي لوحات من أجل تحديقة أخرى.
خلافاً لطبقات الداخل المتعددة في رواية «النفق»، يتناول هيتشكوك في فيلم «النافذة الخلفية» نفس نشاط التحديق كحالة حكائيّة مكثفة يمكنها تكوين حكاية كبيرة فارقة، مع التحفّظ على طغيان الصورة الدرامية الخارجية في الفيلم المتمثلة في التشويق، على تركيبة البُعد الحقيقي للقصة، وهذه عادة حاضرة في بعض أفلام هيتشكوك. بعينٍ كاشفة، يجلسُ المُصوّر الصحافي «جيف» أمام الشرفة مالّاً من أي شيء يُمكن أن يفعله رجل بقدمٍ مكسورة ومُجبّسة. يُمثّل جلوسه جزءاً من عين كبيرة لنافذة خلفية تطلّ على نوافذ عديدة، تجعل دواخل هذا العالم وخصوصيته بفعل العرض على الشاشة حكاية خارجية مُعلنة، وبالتالي هناك شيء بالضرورة مثير. يكتشف «جيف» حادثة مقتل زوجة أحد الساكنين أمامه، وعند التحديقة الأولى يتورّط في ضرورة معرفة الحقيقة، فعندما يطلب من مساعدته المنظار، تخبره أن هذا نذير الوقوع في مشكلة.
رأى «جيف» من النافذة حكاية مركزية بها مشاحنات وشجارات، سكاكين وأحبال ومناشير. هذا المشهد بدا أكثر سعة من محدودية تناوله في الفيلم، باعتبار أن هذه الأشياء لها مبرر درامي لاحق في عملية القتل، لكنّ تمثيل تحديق «جيف» وظهوره عابراً لحكايات أشخاص كثيرة لخلق «حالة» جماعية في الفيلم، يكمُن في أحد أشكاله حكاية مروية بحجم استثنائية حكاية ساباتو. ورُبما هنا علينا التحديق بدورنا في الهوامش، فربما أن تكون ندّاً أفضل من انطباعنا عنه في مواجهة المتون المركزية والحكايات التي لها ألق خارجي مُلفت لتحظى بالاستهلاك.
اشترك الفيلم والرواية في سمة مركزية، وهي قدرة الزمن على التحوّل فجأة، وتجاه نفس الشيء، فالتحديقة التي تكشف لنا بعداً جديداً في عالمنا، تجعلنا متورطين إما في متابعة الاختلاس، أو كضحية له. تحضر للنظرة سلطة حتى على كاشفيها، فنافذة هيتشكوك ليست معنيّة بالمصوّر فقط، لأن الأخير ليس أكثر من جُزء منها. ثمّة صراع طويل مختبئ تُشعله الأحداث المرئية من جوانب غير مرئية.