في فترة منتصف السبعينيات في القاهرة، وبالتحديد عام 1976، كان الرئيس السادات يمارس هوايته المفضلة؛ إبراز سخاء الفلاح المصري وكرمه عند استقبال الضيوف. كان ضيف السادات حينها رئيس فرنسا السيد ديستان، وكانت الزيارة ترمز إلى بداية عصر جديد من التعاون المصري الغربي، جسدتها تلك الثنائية «السادات/ ديستان». ومن سوء حظ السادات، أنّ أعين أحمد فؤاد نجم كانت تتربص به، الشاعر الذي بقيت كلماته أكثر من كلمات أنور السادات، إذ سرعان ما كان يكتب قصيدة ذمّ وهجاء ينقل فيها ما رصده لصديقه الأعمى الشيخ إمام، ليقدم لها لحناً ويحولها إلى أغنية أشبه بمسرحية كوميدية قصيرة، فجاءت قصيدة: «ديستان الرومانتيكي».

لقد كانت القاهرة كغيرها من مدن مصر وقراها، تنزح تحت فقرٍ في مرحلة تحول الدولة من اشتراكية إلى رأسمالية ممسوخة. والرئيس السادات كان قد تخلّى عن محيط مصر العروبي واتجه إلى الدول الغربية، ووعود العولمة والاقتصاد الحر. وهنا صرخ الشاعر، ساخراً، على لسان السادات: «وهنبقا علينا القيمة/ وهتحصل نهضة عظيمة/ وهنبقا علينا القيمة/في المسرح أو في السينما/ وهتبقا العيشة زلابية/ ولا حوجة لسوريا وليبيا/ وهنعمل وحدة أرابيا\مع لندن و الفاتيكان/ والفقرا هياكلو بطاطا/ وهيمشو بكل ألاطة/ وبدال ما يسمو شلاطة/ هيسمو عيالهم جان/ ودا كله بفضل صديقي/ ديستان الرومانتيكي/ ولا حدش فيكو شريكي/ في المسكن والسكَن». لقد كانت الكلمات تعبر عن حالة الانبطاح للمنتج الثقافي الغربي، الذي وعد مصر أن مجرّد استيراده فستجد مكانها في العالم الجديد. لقد نجم عن الارتماء المصري في أحضان الغرب، طبقة من الناس المؤثرين، ولدوا على أعقاب سياسة الانفتاح وعُرفوا بـ «قطط السمان» أو «شعبان البقال» في أحد قصائد أحمد فؤاد نجم. لقد بدأ كل شيء من جديد لحظة الانفتاح، وسياساته في محاولات التأمرك والتأورب وإدخال الكوكاكولا إلى مصر من جديد. وبعد ما يقرب من نصف قرن على كتابة قصائد ديستان وشعبان البقال وغيرهم لم يبق شيئاً من وعود العولمة تلك سوى أن أحفاد «القطط السمان» من المصريين توقفوا عن الاحتفال بعيد الميلاد (7 يناير) وبدؤوا في الاحتفال بكريسماس (25 ديسمبر).

سانتا كلوز«هم»
كريسماس في مصر هو منتج سُوّق جيداً بين الطبقات الغنية ليمنحهم مظهراً إضافياً من مظاهر الامتياز الطبقي. تتزين القاهرة الجديدة ومجمعاتها السكنية والـ«كومباوند» بالأنوار وأشجار الأرز البلاستيكية. وفي كل ناصية تجد مجسداً كبيراً لسانتا كلوز الشامخ بابتسامته السخيفة البلهاء. المشكلة أن لا أحد يلاحظ أن ملامح سانتا كلوز آرية جداً، بخدودها الوردية المتورّمة وعيونه الزرقاء -ومن أجل الواقعية، لماذا لم يصنعوا سانتا كلوز أسمر اللون كأبناء النيل حتى الآن؟- ورغم ذلك يقف مستأنساً في شوارعهم وكأنه واحد منهم، وكأنهم أطفاله. تمشي في شوارع القاهرة القديمة وأزقتها هذه الأيام، ولا تجد سوى قمامة المنازل مهملة في الأحياء، وبوسترات بائدة على الجدران تعود إلى انتخابات مجلس الشعب عام 2005، ولا تجد أثراً للسيد سانتا كلوز. على النقيض من ذلك، في رمضان حين تسير في شوارع مصر، فلن تجد سوى الزينة الرمضانية، والفوانيس، والأنوار المتماثلة بنفس الشكل في كل مكان. وهنا يأتي الكريسماس ليلعب دوراً في الهندسة الثقافية للمجتمع المصري ليميز الثري عن الفقير.
لم يجد الفقير وسيلة لمواكبة سانتا كلوز وثقافته. تحتاج ثقافة سانتا كلوز إلى تفاصيل خاصة ومحددة، تتمثل في العمارة ذاتها، والفقير يحذّر أطفاله ليلاً من أي حركة غريبة في المنزل أو أي صوت مزعج، أو «كركبة» فذلك قد يكون إشارة عن وجود سارقٍ أو فأر، ووجود كلاهما يعتبر خطراً. هو يعلم جيداً أنه لا يمكنه إيهام طفله بأن سانتا كلوز سيمر في الليل ويُلقي هديته من المدخنة. لم يصمّم البيت المصري بشكلٍ يتناسب مع تلك المدخنة أصلاً. لذلك تجد سردية أخرى لسانتا كلوز في أوساط الفقراء، سردية مفعمة بالسخرية والركاكة المعتادة. ففي الأدب الشعبي، والاسكتشات الكوميدية، تجد محاولات شتّى لـ«شعبنة» سانتا كلوز: إنزاله من عرشه ليعيش وسطنا -نحن الفقراء- ولكنه يظل غريباً ولا يتأقلم.
إذا بحثت على يوتيوب فستجد أننا استبدلنا «الرنّة» بالحمار أو التوكتوك أو التروسيكل. ستجد سانتا كلوز بلهجات إقليمية كسانتا كلوز الدمياطي. ووراء كل تلك السخرية والازدراء، تقف رسالة واضحة وصارمة لسانتا كلوز مفادها أنه ليس منّا ولن يكون. وبينما ينتظره الأطفال في الغرب ليرمي لهم الهدايا، فالأطفال في شوارع مصر سيطاردونك قذفاً بالحجارة يا سانتا. لذلك فإن سانتا كلوز في الوعي الجمعي الشعبي هو شخص غريب الأطوار، وليس أسطورة لها احترامها لارتباطها بالسيد المسيح وميلاده. سانتا كلوز في مصر مرتبط بالسيد الثري، غير المحترم، وغير المُقدس، وأسميه أنا السيد «كشكش بك».

كريمساس صلاح
في الأعوام الأخيرة، اقترن كريسماس في مصر بترند يظهر فيها اللاعب المصري محمد صلاح محتفلاً مع أسرته الصغيرة في إنكلترا. في كل عام، يتعامل جزء كبير من المصريين مع صور صلاح باستهجان. على المستوى الشخصي لم أكن لأهتم بما يحتفل به محمد صلاح في أوروبا وليس في مصر. ففي النهاية هو أقلّ غرابة من الاحتفال بكريسماس في حيّ الشروق بالقاهرة الجديدة. ولكن في هذا العام، وبالتزامن مع الحرب في غزة والتي كان موقف صلاح منها مخزياً، كنت أنتظر للمرة الأولى ألا يحتفل ويبتهج بكريسماس، على الأقل في ظلّ الحرب، وألا يستمر بالتصادم مع هؤلاء الذين صنعوا شعبيته الجارفة، ولكنه ما لبث أن خرج علينا مرتدياً قرنيّ «الرنة»، بضحكة عرضها السماوات والأرض، وهنا استعادت ذاكرتي شخصية «كشكش بك».
يذكر الكاتب صلاح عيسى أن الاسكتشات الأولية لكشكش بك ظهرت للمرة الأولى عام 1882 بقلم الثائر والأديب عبد الله النديم فيما كتبه عن شخصية «زعيط بن معيط» وهو العربي المتفرنج. كان زعيط ابناً لأحد الفلاحين، وكان يلعب في التراب، وينام في الوحل، ويسرح بالجاموسة، إلى أن أرسله أبوه إلى المدرسة وأرسلته الحكومة إلى أوروبا ليعود منها مشمئزاً من أصله، يحتجّ على استقبال أبيه له بالأحضان معتبراً ذلك مظهراً من الثقافة البائدة ويكتفي بالقول: «بون أريفي» (Bonne Arrivée). ومن شخصية «زعيط» خرجت شخصيات أخرى مثل «بعجر» وبعدها «بنجر» وكلها نماذج لمصريي قاهرة الكوزموبوليتان، المحتلة من البريطانيين والأوروبيين بشتى جنسياتهم. هم الذين يئسوا من احتقار مواطني الكوزوموبوليتان لهم فقرروا أن يكونوا مثلهم، إلى أن وصلنا إلى الشخصية الأكثر رسوخاً في الوعي المصري بحكم المسرح والسينما، وهي شخصية «كشكش بك»، والتي جسّدها المسرحي والممثل الكوميدي نجيب الريحاني، بعد أن واجه مخاطر تهدّد مستقبله الفني ووضعه المعيشي والفشل الذي كان يمرّ فيه في كل اتجاه. نزلت عليه شخصية «كشكش» كالوحي. في صورة عن عميد لإحدى القرى في الريف، لحيته شهباء، وشاربه كث، يضع على رأسه العمامة ويرتدي الجبة والقفطان، يغادر قريته «كفر البلاص» بصحبة تابعه «زعرب» إلى القاهرة أو الإسكندرية ليبيع القطن، ومن اللحظة التي تطأ فيها أقدامه أرض المدينة يجسّد المثل القائل «فلاح أبهرته أضواء المدينة» فيبدد أمواله في مطاردة النساء وفي الكباريهات. في واقع الأمر لم يكن «كشكش بك» اختراعاً لنجيب الريحاني، بل كان حالة سمّاها المؤرخ صلاح عيسى «مجتمع الكشاكش». وقد كان سلوك «كشكش» نمطاً شائعاً، وحاضراً بقوة على الخريطة الاجتماعية لمصر وفي أدابها. وسرعان ما انتشرت شخصية «كشكش» وأصبحت في شكل عرائس يلعب بها الأطفال، وتنوعت القصص، فمن عمدة «كفر البلاص» إلى عمدة «كفر البقر» ولمفردة «كفر» دوماً رمزية عن «كشكش» الذي يمثل «بلاصاً» أو «بقرة» كل شيء عدا كونه إنساناً أو فلاحاً يحترم نفسه ويحترم هويته.
من القاهرة الكوزوموبوليتانية إلى القاهرة المعولمة لم يتغير الوضع كثيراً سوى أنه بات «للكشاكش» أسماء كثيرة على مدار هذا الزمن، ولكن صفة «الكشكشة» لا تزال تلتصق بهم. يعبّر «الكشاكش» كما يصفهم صلاح عيسى عن حالة مراهقة قومية، نجمت عن شعور غلاب بالنقص تجاه الأوروبيين عموماً والمُحتلين خصوصاً، تقود أصحابها إلى إثبات ذواتهم كطبقة راقية مؤهلة لكي تتساوى بهؤلاء الأوروبيين. وكريسماس كفيل بأن يكون مناسبة حتى تبلغ «الكشكشة» ذروتها.