لكي أرصد مناخ كريسماس هذا العام، رحت أبحث عبر غوغل عن مظاهر الاحتفال الرائجة. ظهر لي ضمن التقارير الخبرية السريعة، روابط كثيرة لمواقع تُقدّم عروضاً لكريسماس: سعر زيّ سانتا كلوز، مجسّمات عنه بأحجامٍ مختلفة، زينة مختلفة و«طراير» تزيين، وطوق قرون الغزال. ذكرتني شروط الدفع لكي تحصل على أكسسوار الاحتفال بمشهدٍ لعادل إمام في فيلم «سلام يا صاحبي»، حينما أوقف قطاع الطرق ناقلة حمولته، وقد كان شرطهم ليسمحوا له بالمرور تغريمه خوّة مالية، قائلين: «شخلل علشان تعدّي». يقوم كريسماس بشكلٍ أساسيّ، على مظاهر استهلاكية، ويُقاس بناءً على جودتها ووفرتها وقيمة الاحتفال. تُعلّق الأكاليل على مداخل المنزل بجوار شجرة العيد الضخمة، والتي تعود بالمناسبة، إلى الحضارة الجرمانية التي كانت تحتفل بعيد الميلاد عبر حرق جذوع الشجر، في رمزية تدلّ على «مباركة» أمنيتهم بمنتجات وفيرة للسنة الجديدة. في المنازل، يشترط الاحتفال بكريسماس طاولة عشاء ثرية باللحوم، بينما يشهد الخارج صخباً احتفالياً كبيراً.

«أن تحب المال على كل شيء آخر»، بيتر هايد

قياس جودة كريسماس بمدى الترفيه والقدرة على الاستهلاك يعود إلى تزويد تاريخي، عمل على فرض هذه الظاهرة عبر ضخ دائمٍ للموارد التي تكفلها، وأن تتحرّك مظاهر العيد مع رأس المال لتكون حدثاً ربحياً. وللمفارقة فإن تطويع الاستهلاك واعتباره قياس جودة الاحتفال بكريسماس ليس أكثر من حلقة في إعادة إنتاج تاريخي مُفعم بالسلطة لمناسبة لها جذرٌ تاريخي مُتنوّع، وحصرها في صورة واحدة جرى عولمتها.
سانتا كلوز رأس حربة الكريسماس. الرجل الأبيض الناطق بالإنكليزية، يتجاوز المرجعيات التراثية في الأسطورة حتى الدينية منها. يمكن إرجاع مولد سانتا كلوز إلى راهب يدعى نيكولاس، ولد في تركيا عام 280، تخلّى عن ثروته وسافر إلى الريف لمساعدة الفقراء والمرضى، سُمّي على إثر ذلك «الحامي». دخل القديس نيكولاس الثقافة الشعبية الأميركية أواخر القرن الثامن عشر، في نيويورك، عندما اجتمعت عائلات هولندية –كانت وقتها تُمثّل العمالة اليدوية- لإحياء ذكرى «ساينت نيكولا» التي تعود إلى القدّيس نيكولاس، ولاحقاً في 1822 كتب كليمنت كلارك مور قصيدة عيد الميلاد بعنوان «قصة وزيارة من القديس نيكولاس»، ظهر فيها سانتا كلوز كرجل مرح يطير من منزل إلى آخر على زلّاجة لتوصيل الألعاب والهدايا إلى الأطفال والعائلات.
لكن النافذة التي دخل منها سانتا كلوز إلينا اليوم، تعود إلى صورتان نُشرتا في يناير 1863 بمجلة هاربر ويكلي المُصورة، ظهر فيهما مخلّصاً للأمة في خضم حرب أهلية، قزم عجوز مرح، يوزّع الهدايا في معسكر جيش الاتحاد ضد ولايات التمرّد الجنوبية. ومنعاً لأي حياد ووفقاً لحريّة الفن الذي أنتج سانتا كلوز، فقد ظهر الأخير بسترة مُزينة بنجوم الولايات، وسروالاً ملوناً بخطوط. في تلك الحالة، لم يكن تحوّلاً في رمزية عيد الميلاد بقدر ما تنامى وتحوّل في المرجعية المُتعددة والمُمثلة للثراء التراثي، ففي هاتين الرسمتين أصبح عيد الميلاد عُطلة للاتحاد، وأصبح سانتا، مثلما قال آدم جوبنيك «إلهاً محلياً».
لم يكن عيد الميلاد أكثر من عُطلة دينية بسيطة، حوّلته قوى مُجتمعة إلى عيد تجاري. ويحتفل العالم بهذا العيد اليوم في تصويره كمنتج، في دورة توليد للقدرة الشرائية مستمدة من صورة كلاسيكية عن الطبقة الوسطى، إذ تنتج مواد شرائها عمالة يدوية مسلوبة القيمة والمُواطنة. يبلغ عدد شجر كريسماس حالياً أكثر من 30 مليون شجرة سنوياً في الولايات المتحدة وحدها.
أقصى حضور لسانتا كلوز –فضلاً عن تسويقه كأداة ترويج للحرب- الصورة الأولية للاحتفال الديني، والذي يُمثّل جمالية الاعتقاد على نحو شخصي. نرى تنويعات الاحتفال بكريسماس واشتراك التوقيت بينها في مختلف الحضارات، وما ينتجه ذلك من ثراء وانفتاح في قبول وازع للاحتفال حيث البهجة مشتركة بمجيء «أمثولة أمريكية». من نافلة القول إنّ سانتا كلوز يختزل العيد وهو العراب الحصري لتصدير البهجة، واستدعاء الروح الأبوية العطوفة، حتى وإن كانت في أوقات الحرب. هناك انطباع عالمي عن أسطورية سانتا كلوز، ليس لأجل تحقيق الأشياء الاستثنائية، ولكن لقدرته على تصدير البهجة. مُجرّد هديّة مُغلفة بشكلٍ جميل يُمكن أن تحمل لعبة للأطفال أو بندقية حرب لقتلهم. ولربما لو أرادت الولايات المُتحدة أن تغيّر رأيها حول حرب غزّة، ستُرسل اقتراح إيقاف الحرب عن طريق سانتا كلوز في نهاية هذا الشهر.
لسوء الحظ، تسبق وداعة سانتا كلوز تحريفاً أكثر دموية لعيد إنكليزي بامتياز. يحتفل الأميركيون بعيد الشكر منذ حوالى أربعة قرون إحياءً لذكرى العشاء الرسمي الذي حصل في نوفمبر 1621. لم يكن العيد في البدء عيد «شكر». كان «ابتهاجاً» مفعماً بالاحتفال والحياة. تحوّل إلى «شكر» بعد إبادة السكان الأصليين (الذي قالوا عنهم الهنود الحمر). أخذت الأمور، كما نعرف طبعاً، مسارها الطبيعي بهدوء، إذ توسّعت المستعمرات الأميركية وتخلّت الشعوب الأصلية عن أراضيها، وتلاشوا شيئاً فشيئاً. لا يصلنا شيء من عيد الابتهاج/ الشكر لدى السكان الأصليين حتى ولو كانوا يتناولون الديك الرومي المشهور على السُفرة الأميركية في عيد الشكر، على الرغم من أن مطبخ «الأصليين» كان يشمل تشكيلة واسعة من الأطباق كثعابين البحر، وأطباق محليّة تُسمّى «ناساومب». لم تكن هناك بطاطس مقلية بعد، ولم يكن هناك زبدة، أو دقيق قمح أو سكّر لصناعة فطائر لعيد الشكر.
يتزاحم عيد الشكر ليشغل حيزاً دالاً على التناغم بين الثقافات. لكن العيد بالجُملة، بداية من الاسم مروراً بعادات الاحتفال وانتهاءً بسُفرة الطعام، يُذكرنا بما سُلب وتلاشى. كيف غشّ المستوطنون الإنكليز السُكّان الأصليين، ودفعهم إلى صراع تلاه إبادة، سُمّيت بحرب «الملك فيليب»، حيث تم الاستيلاء فيها على أراضي السكان الأصليين، وتقسيم شعب الوامبانواغ، جواراً إلى المجموعات والعائلة الأصلية الأخرى.
مع مطلع القرن العشرين وسيادة الرأسمالية الصناعية، والاحتياج إلى الميديا في أول أشكالها، ظهر موكب متاجر «مايسيز» في عيد الشكر، وهو الموكب الترفيهي الأكبر في نيويورك، يعود إلى 1924، يُشارك فيه سنوياً الآلاف من الجمهور والمشاهير، أصحاب المتاجر والعلامات التجارية، يُحقق ربحاً سنوياً بقيمة 12 مليون دولار. بالنظرِ إلى أصول الأعياد التي تشغلُ بال العالم ليلتها، وهذه الرغبةُ حقٌ جميل ومشروع في الاحتفال، يتجلّى نفاذ العولمة العابرُ إلى ماضي العالم، فطالما هناك شيء سابق يشكّل حدثاً احتفالياً أو فلكلورياً حالياً، لا بد من إعادة إنتاجه عبر إقصاء مختلف المرجعيات الثقافية واقتطاعها ومنع أصالة الاختلاف، ومسح الأسطرة عنها، ومن ثم تحويله إلى ظاهرة ربحية تقوم كُليّاً على الاستهلاك. من يعرف؟ ربما رأى الرجل الأبيض أن حداثة سرديّته أكثر قدرة على إثارة البهجة، لكنه بطبيعة الحال لا يرى أن أشجار والجوارب الحمراء لكريسماس، تُخفي دماءً تسكن هوامش التاريخ.