«كيف أنسى الأمس واليوم ابنُه
والغدُ الآتي وليدُ الحاضر»- البردوني


هل نتفق أنّ عملة الليرة اللبنانية المعدنية القديمة التي كان جدّك يتباهى بها لا تصلح اليوم إلا كـ«فيشة» في نادٍ ترفيهيّ شبابيّ تماماً كما قد تصلح الذكريات لأن تكون «فيشتنا» لنلاعب وحشنا الحساس كلما حاول أن يخمد رعبه في نفوس المجتمعات التي تقاتلت لإلغاء وجودها في لحظةٍ «طائشة» أردت كلّ جهات الأزمنة؟ الحاضر هو دائماً رفرفةُ «الفيشة» في الهواء. مصيرُك أن يكون مصيرُك ذاته معلّقاً باحتماليةٍ طائشةٍ بين «نقشةٍ» أو «طرّة». مصيرُك أن تُصاب بصداعات اللحظة المتأرجحة فوق كفٍّ يمسك آلة البندول ذات التنويم المغناطيسي ويؤرجحها أمامك، فلا أنت ترى ما تراه حقّاً، ولا أنت معصوب العينين كيلا ترى تماماً. حين يشرد جدّك في نصيحة أسلافه وينظر إلى ليرته ذات المجد وهي تصبح فيشةً بيد الأطفال، تُراه كيف يقيسها الآن؟ أن خبِّئ قرشَك الأبيض ليومك الأسود، هل كانت تنبّؤاً أنّ ما كان ذا عزٍّ أبيضٍ سيصبح يوماً ما مجرّد معدنٍ يسودُّ في عالم اللهو؟ أم تعني أسلوب عيشٍ ثقافيٍّ ينظّم مساراً ما؟ ألا يجوز مثلاً أن نقول خبّؤوا ذاكرتكم البيضاء لحاضرٍ أسود؟ كأن خفّف رعبَك من التاريخ كلّما احتجته، فالتاريخ والرعب لا يجتمعان.
في فيلم رندا الشهال «حروبنا الطائشة» (1995) الذي يُراوح بين التوثيقي مستعملاً مشاهد أرشيفية والبحثي بأسلوب يكاد يكون عفوياً، تألفه وتستغربه معاً، تسلّط المخرجة الضوء على عائلتها المناضلة الشيوعية(نهلة وتميم الشهال ووالدتهما فيكتوريا)، وعلى «سرديّاتهم الصغيرة» التي كثيراً ما اختلجها حنينٌ وخوفٌ، تردّدٌ واندفاع، الجدوى والبحث عنها. يبدو البوح عن الحرب بعد انتهائها لمن كان في خضّمها محاولة لا لتأنيب الضمير، بل محاولة للتساؤل عمّا جرى وكيف ولماذا. فالمتحدث في لحظة صدام مع رعب مرحلةٍ دوّخت رأسه بالأسئلة وأجابته بالبنادول بكلّ معانيه. تقول نهلة الشهال بأنّ فقدان الذاكرة عند اللبنانيين قادر على إعادة الحرب الأهلية بسياقات مختلفة. وهي محقّة في ذلك.
في كتابه «الرجل الذي حسب نفسه قبعة» يتحدّث الكاتب الطبيب أوليفر ساكس عن مريضه بدار المسنّين الذي كان في شبابه يخدم في الأسطول البحري. فيقول إن مريضه وقفت ذاكرته عند مرحلة معينة من حياته وبقي عالقاً في ذلك الزمن رغم مرور عقود من عمره. بلغ من العمر ردحاً، ولا تزال ذاكرته واقفة عند عمر الشباب أثناء خدمته. ساكس لا يتحدّث عن فقدان الذاكرة هنا باعتبارها مرضاً كالخرف إنّما يشخّص حالة مريضه على أنّها توقّف للذاكرة عند تاريخ معيّن وقدرتها على تذكّر تلك المرحلة بدقّة. يمكن فهم كلام نهلة بهذا المعنى. أي إذا مضى بنا التاريخ بذكريات ثابتة ولم نشعر بحاضرنا، سنصبح مثل عجوز الكاتب، نشيخُ بلا حكمة، ونسلك بلا همّة، ونتذكّر الماضي بلا رحمة. وما فقدان الذاكرة سوى هذه الثلاثية؟ من المفيد فهم كلام نهلة بهذا المعنى لأنّ هناك فرق بين رُعبِ الأناشيد التي تؤلَّف وبين عُرَبِ الصادحين بالأغاني. بهذا المعنى يقول أخاها تميم الذي يشكّل شخصية أساسية في الفيلم، بأنّ لا جمهور بلا حالة تنظيرية للذات وللآخر تُعرّف الرعب وتطرح منهجها الإنقاذي. لذلك لم يكن تميم كما نراه، مرعوباً من الحرب حسبما ألمح أو حسبما يمكننا فهمه سيميائياً من لهجته وتعابير وجهه، بل كان مشاركاً فيها كواقعٍ حار يتطلّب خيمة النظرية وجدلية التأثير والتأثّر. ولكنّ الرعب تجلّى بموضوعيته بعد الحرب وإنزال البنادق من على الأكتاف، وبالقفز من مركب النظرية المثقوب بالاعتماد على السباحة منعاً من الغرق في بحرٍ جزره للوراء يفوق مدّه إلى الأمام. بمعنى أوضح، إنّ رعب الحرب يتجسّد بأسلوبين داخل المجتمع اللبناني، من شهدَ الحرب وشارك بها يرعبُه تكرارها على أحبّائه اليوم حتّى ولو كان حينها غير مرتعب. خوف هؤلاء هو خوف نابعٌ من التجربة. ولكنّ الآخرين هم من لم يشهدوا الحرب ويخافونها في المخيّلة ومن ذكرياتها التي تتطلّب الشعور بالرعب. ولذلك يبدو الحاضر في المجتمعات التي تتمنّى أن تتقاتل ولا تتقاتل، بمثابة التهديد المؤجّل وريشةً حادّةً تقصم فعليّاً ظهر البعير.
هناك الكثير من البكاء على بيروت القديمة. ينتابني هذا الشعور كلّما فكّرتُ بمن شهدَ الـ«بيروتين». بيروت التي تشبه «وجه بحّارٍ قديم» وبيروت التي تشبه وجه قاتلٍ لئيمِ. تأخذك رندة في فيلمها عبر صورٍ إلى بيروت وأسواقها وركامها وخوائها وشبحيتها ورعبها. لجمالٍ مخبوء بين الهدم الحاصل وبين الركام المرّ. تصبح الذكرى على هذا المستوى ذكرى بيضاء قدر ما بها من حذرٍ مرعبِ. فبيروت الجميلة رغم الردم والركام، الأنيقة التي تطلُّ علينا ولا تطيل النظر، ستكون مرعبةً لو أعدناها الآن، لأنّ للمكان ذاكرة وللذاكرة أظفار. لذلك علينا أن نتذكّر إلى الحدّ الذي يتوقّف فيه جمال الماضي عن أن يكون جميلاً. في مقدّمة العدد السابق أشار الصديق بول مخلوف إلى شبحية الزمن لدينا في الشعور بالرعب، فلسنا بحاجة إلى عامٍ جديد لنشهد به رعباً ما، ما دام زماننا كلُّه مجبولاً على الرعب. وحقيقةً نحن «لا نحتاج إلى حدثٍ دميم أو خبرٍ مذعِرٍ حتى ندرك أنّ يوميات القرن الحادي والعشرين مجبولة بالفظاعة، وأنّ رغبة عارمة في التوحّش تُحرّك أحواله، فهذه دروس استقيناها ولا نزال نستقيها من الحروب». إنّ سيولة الرعب يتداخل بها الزمن. الشعوب التي تعيش برعبٍ دائم لم تدخلِ التاريخ ولا تعيش الحاضر ولن تبلغ المستقبل. أتّفق مع الكاتب حول تماهي الـ«لم ولا ولن» في مجتمعاتنا، أي حول ما يعترينا من رعبٍ لا يزول ولا يكفّ يوماً عن طمر نفوسنا بالهلع. فنحن لا نستقي من «ذكرياتنا الأهلية» سوى الحرب، ومن الحرب لا نستقي لحاضرنا سوى التلويح برايتها المرعبة. المرعب ليس أنّ الحرب سوف تبدأ يوماً ما، إنّما كلّ الرعب يكمن في أنها لم تنتهِ بعد. ولكنّني أختلف معه حول ضرورة حاجتنا إلى الرعب من عدمها. فعلى الرغم من كون السياق الذي يعالجه (العزيز بول) في مقدّمته يأتي ضمن ما يُمارس على شعوبنا من رعبٍ حقيقيّ لا خلاف حوله، إنّما الكلام عن حاجة وضرورة الشعور بالرعب مسألة بها خلاف. ذلك لأنّنا نحتاج دوماً لأن نشعر بالرعب من أجل مواجهته، وتحديد أسبابه وتمظهراته والعمل على كسرها، والأمر سيان سواء كان الرعب مفروضاً علينا من الخارج أم نحن من نفرضه على أنفسنا كلّما تجنّبناه. تقول نهلة الشهال في الفيلم بأنّها في اللحظة التي أدركت فيها أنّ من خطفها على السفينة هو العدو الإسرائيلي أحسّت نوعاً ما بشعور يشبه الاطمئنان أنّ مصيرها سيكون أقلّ فظاعة ممّا لو كان بيد الكتائبيين. وهذا الموقف بالطبع لا يدين قائله، فالمعنى واضح بين السطور، ولكنّه بدوره يطرح إشكالية جوهرية حول مستوى الهلع بين تمظهر الرعب المفروض في الداخل وبين تجسيداته في الخارج، على الرغم من أنّ في الحالتين يكون تلقّي الرعب مقروناً بالحفاظ على الوجود.
منذ عقدين تقريباً بدأ ينتشر في الغرب حقلٌ أكاديمي يكاد يكون غائباً بشكلٍ شبه تام عن الجامعات العربية، يُسمّى «حقل دراسات الذاكرة». يقوم على استذكار الماضي وفهمه وسؤاله والتعلّم منه. وهو حقل مرعب في توجّهه، يشبه العودة للدخول إلى الكهف. ولكنّ ذلك الكهف هو ردّةُ السهمِ إلى وراء قوسه وحينها يتبدّى كلّ الرعب من فلتةٍ ساهية. بهذا المعنى يمكن لهذا الحقل أن يسائل التاريخ وهو يجري. كأن يسأل عن الجدوى بين واقعَين محتملَين إزاء ماضٍ واحدٍ ثابت. ذلك لأنّ سؤاله المفتوح على عدّة مصائر يعقده ماضٍ ما، ماضٍ تشعرُ به المجتمعات أو الفئات الاجتماعية المتعدّدة، بشيءٍ يخصّها فيه. ولذلك يبدو مشروعاً طرح السؤال: أيّهما أجدى واقعاً، أن تنسى الشعوبُ المتناحرة والمتصارعة الماضي الدمويّ فيما بينها وتتعايش وتتسامح بلا قصاص ومن ثم تعقد سلاماً؟ أم أنّه يجب استذكار الماضي والمطالبة بتحقيق العدالة والاقتصاص للضحايا من المرتكبين؟ وكِلا الخيارين مرعبان. وهنا الأمرُ سواء في قول أمل دنقل: «كيف تنظر في كفّ من صافحوك ولا تبصر الدم في كلّ كفّ؟» إن قلناهُ ضدّ العدو الإسرائيلي أو إن قلناه ضدّنا.
على الرغم من انقضاء تاريخ الحرب الأهلية إلا أنّ مغزاها لم يتعرّض للنقد الكامل والمساءلة الشاملة. فتأثيرها بوصفها حرب استمرّت لمدة طويلة واتّسمت بالنطاق الواسع جسّدَ الأشكال السافرة للعديد من الظواهر الزائفة والدميمة والشريرة، وقامت بتجسيد أخطاء اللبنانيين وعيوب مجتمعهم ومساوئهم ونقاط ضعفهم، ولليوم لم يتمّ التحرّر من قيود تأثيرها بشكل حقيقيّ وجذريّ وفعّال، حتّى ولو مورست عملية التطهير الأيديولوجي لتلك الحقبة بشكلٍ نسبيّ، إلا أنّ قبول الناس لنقدها بصورة عامّة لا يزال شحيحاً ويترك انطباعاً عميقاً داخل النفوس. فلتزيل العواقب النفسية والاجتماعية والسياسية الناجمة عن الحرب وإزالة التأثير الضخم الذي تركته ربّما يحتاج إلى مدة أطول من تعويض الخسائر الناجمة عنها. لعلّ الرعب الذي تبثّه ذكرى الحرب في يومنا الحاضر داخل نفوس اللبنانيين ضرورة حتمية لمنع تكرارها. وربّما ذلك الرعب يكون وحده المغزى التاريخي الضئيل للحرب الأهليّة.
في روايته «العملاق المدفون» يعالج الكاتب الإنكليزي-الياباني، ظاهرة التناحر بين الشعوب ويطرح حلاً فانتازيّاً يحول دون تكرار سفك الدماء والهمجية والقتل والوحشية بين شعب الساكسون وبين شعب البريتون المتجاورين. فيسلّط مخلوقاً خرافيّاً ينفث الدخان عليهما بحيث يصيبهما بفقدان الذاكرة، فلا يستطيع أحدٌ بعد الآن أن يتذكّر الأحداث السوداء للماضي الدمويّ الذي حصل، وذلك بغية أن يتعايشا بسلامٍ وتوافق. يبدو أنّ الذكريات الطائشة التي تصيبنا ولو سهواً، تحتاجُ من أجل لجمها إلى خرافةٍ نسمّيها «العيش المشترك».