مثله مثل الكتاب أو الفيلم، يحمل البودكاست عيوبه إلى جانب سماته. البودكاست الذي يعتبر أحد وسائط الإعلام الجديد هو البث الصوتي تسجيلاً كان أم مباشرةً، وقد يكون البودكاست في بعض الأحيان مبثوثاً بشكل مرئيٍّ أيضاً، يبقى أن عموده الفقري هو الصوت. لا يمكننا الحكم على ظاهرة البودكاست بأنها سلبية قصراً، لكن شيوع البودكاست في العالم العربي، وانتشاره بإفراط أخيراً، جعلاه مطرح ابتذال. ظهر مصطلح بودكاست للمرة الأولى عام 2004 في الأوساط الغربية، وكان البودكاست ابن جهاز الآيبود. بسبب عدم تطور منصات المحتوى المرئي آنذاك، فقد كان من السهل استخدام المعدات الموجودة في الجهاز لخلق المحتوى. إنّ برنامج التسجيل وجهاز الميكروفون كانا كافيان لصناعة المحتوى عند أي شخص يتمتع بمعرفة بسيطة في عالم الكمبيوتر. إنجاز بودكاست عملية بسيطة فإذاً، لا تتطلب تعقيدات المونتاج، وغرف التصوير، ورؤية إخراجية وما إلى ذلك، إضافة إلى سهولة تحميل الملف السمعي الذي لا يتجاوز حجمه 100 ميغابايت بحال كان في أفضل جودة.


سهولة تحقيق بودكاست كانت إحدى أسباب رواجه فيما بعد، وكانت السبب الأساسي لانتشاره في الوطن العربي تحديداً. يطمح الكثيرون إلى صناعة محتوى يتيح لهم فرصة التعبير عن أفكارهم وعن وجهة نظرهم، وأن يدر عليهم ربحاً مادياً في المقابل. وبما أن غالبية المستهلكين العرب الذين سيصيرون فيما بعد منتجي محتوى، لا يملكون أموالاً كافية لاقتناء ستوديو على قدر عال من التجهيز، يسمح لهم بتسجيل محتوى مرئي جيّد، صار البودكاست باعتباره عاملاً سهلاً، البديل الذي سيقدّم لهم ما يطلبونه.
على المستوى السيكولوجي، يغازل البودكاست غريزة تعليمية بدائية عند الإنسان الأمر الذي سمح بتفشيه السريع. نتحدث عن فكرة التلقين، والتعلم عبر السمع والاستماع، ومن ناحية أخرى، فقد حضر البودكاست كوسيلة للتسلية، إذ جاء كثرثرة محض أحياناً، لكن في الحالتين كان البودكاست أشبه بقصة تنتقل وتتناقل شفهياً. لقد نشأ الإنسان وترعرع على سماع القصة، بدأ يسمعها قبل أن يراها في الكتب المصورة ثم في المسارح والسينما. لذلك، يحث البودكاست في داخلنا حنيناً نوستالجياً إلى زمن نظنه أصيلاً، يتجسد بعالم الراديو الذي يذكرنا بمنزل الجد والجدة. الراديو التي ظلت مكانتها راسخة رغم تطور المعدات الإلكترونية بفضل التكنولوجيا، ودائماً ما يتذكر الإنسان أجداده حين ينظر إلى الراديو.
على تخوم الكوارث والمصائب، تولد ظواهر وتنشأ، والبودكاست كان إحداها. حين اجتاحتنا الكورونا، تعرضنا في الوقت عينه لغزو البودكاست. جاء البودكاست في زمن الحجر المنزلي، وشهد حينها ارتفاعاً مهولاً في عملية إنتاجه. بما أن الالتقاء بالأشخاص ومسامرتهم عن بعد كان الحل الوحيد في ذلك الوقت للاتصال والتواصل، فقد قدّم البودكاست هذه العلاقة. كما أن ميزاتٍ عدّة يمتاز بها جعلته يتفوق على كلا التلفاز والراديو، ذلك أنه يتيح للمستمع أن يختار الموضوع الذي يريد الاستماع إليه، إضافة إلى عدم اشتراطه الإنترنت لتشغيله عبر خدمة التحميل المُسبق. بفضل تلك الخصائص والمزايا، انتشر البودكاست مثل الجائحة، وبات وسيطاً سمعياً محبباً، يُستهلك أثناء قيادة السيارة، أو المشي، أو قبل النوم، أو بعد النوم أي لحظة الاستيقاظ، صار بمعنى ما، رفيقاً.

بداية البودكاست العربي
في موقع «البودكاست العربي»، وهو الموقع الإحصائي شبه الرسمي لعدد البودكاست العربي، نجد عبر الرسم البياني أن المرة الأولى التي برز فيها بودكاست عربي كان عام 2007 واحتوى آنذاك على ثلاثة برامج فقط. بقي البودكاست حتى عام 2016 خجولاً، وبرامجه طفيفة، إذ وصل عددها إلى 36 برنامجاً فقط. إنتاج البودكاست شهد تحسناً منذ عام 2018، حتى بلغ السهم البياني ذروته بشكل أشبه بالانفجار عام 2020 أي في زمن كورونا. منذ عام 2020 والبودكاست العربي بحالة تزايد، حيث ينشط 458 بودكاست بينما توقف 1072. يسجل الموقع أيضاً ما يقرب من 70 ألف حلقة بودكاست، وهذا خير تعبير عن زيادة ثقافة البودكاست في الوطن العربي في السنوات الأخيرة، علماً أن هناك بعض البرامج غير المسجلة على الموقع. يحظى البودكاست القائم على المواضيع الاجتماعية أو على الحوار بأعلى نسبة استماع مع فارق بسيط يفصله عن بودكاست من النوع «التعليمي الثقافي». وهذا هو جوهر ما يصبو إليه البودكاست العربي، وهو في الآن عينه النقد الذي يوجه إليه. لقد أصبح البودكاست فسحة لثرثرةٍ غير مفيدة، رغم ما يمكن أن يوفره من فرص ثقافية وتعليمية خفيفة ومدخلية.
نلحظ هيمنة البودكاست في الخليج العربي، في دولتَي الإمارات والسعودية تحديداً. في الإمارات يستمع أكثر من مليون شخص إلى البودكاست حسب الإحصاءات، أما في السعودية فيستمع خمسة ملايين شخص إلى البودكاست بشكلٍ منتظم. تكثر في دول الخليج المبادرات الفردية التي تقوم على إنتاج منصات رقمية تحوي بطبيعة الحال على البودكاست، مثل تجربة «ثمانية» وبودكاست «فنجان» الخاص بها، أو منصة «خطو» (التابعة لياسر الحزيمي)، إضافة إلى عقد المؤتمرات بصفة دورية، هدفها تطوير تلك الصناعة ونشرها خارج نطاق الخليج، وتوجيهها باللغة الإنكليزية، وقد يكون مؤتمر «بودفست دبي» الذي عُقد في دبي عام 2021 من أبرز تلك المؤتمرات.
يبدو البودكاست الخليجي المنتَج الأكثر جودة من الناحية التقنية. تلك الدول تمتاز ببنى تحتية جيدة، ما يعني إنترنتاً جيّداً، وتملك إمكانات مادية عالية ما يعني القدرة على شراء معدات إنتاج بحال أراد الفرد أن ينتج بنفسه بودكاست. كما أن لدى مستمعي البودكاست في دول الخليج القدرة على الدفع بحال كان البودكاست يشترط تكلفة مادية، ما عزز استثمار الشركات الأجنبية والمحلية في قطاع البودكاست المتنامي هناك، فربحهم مضمون كما يتضح.

من النخبوية إلى الثرثرة الفارغة
لم يخرج البودكاست العربي من تهمة «النخبوية» إلا بتنوع مواضيعه، والأهم جاء بخروج مواضيعه عن الثقافة والأجواء الثقافية، حتى أصبحت غالبية البودكاست العربي عبارة عن برامج «حكي». هناك الكثير من البرامج العربية التي تقوم على فكرة استضافة المذيع شخصاً للحديث معه عن حياته وعن مجال عمله. هذا النوع من المحتوى، أي «الحكي» من أجل الثرثرة، يساعد صاحب البودكاست، إذ إنه يحرره من مهام الإعداد التحريرية للحلقة. والبودكاست في الحالة هذه، يراهن على قدرة الضيف في السطو على اهتمام المستمع. يحدث ذلك عبر الحديث عن تجربته، وفلسفته في الحياة حتى لو كانت فلسفته فارغة وتجربته جوفاء. لكن كون امتلاك الضيف منبراً يستقبله ويعطيه الفرصة للكلام، فذلك باعتقاده يخوله إسداء النصائح وتقديم الإرشادات.
في إحدى حلقات بودكاست «ميندست» مثلاً، الذي يقدمه المصري يوسف صبري، استضاف الأخير مصارع هاوٍ للعبة «إم إم آيه» (MMA) العنيفة، وهو اللاعب عمر الدفراوي. راح الدفراوي ينصح الشباب المستمع والمتحمس، ويسدي نصائح عن العزلة والابتعاد عن الجماعة وعدم تأدية أدواراً تجاه الأقارب وخلاف ذلك. هذا واحد من أشهر برامج البودكاست المصرية. إنّ الدفراوي هو أحد النماذج المنتشرة جداً في بودكاست الثرثرة. هو شخص يفعل شيئاً غير شعبي في الثقافة كقتال الـ«إم إم آيه» (MMA)، وتصنيفه في الرياضة على المستويات الدولية هو تصنيف سيء للغاية ومثير للسخرية حيث خسر كل منافساته الرسمية، لكن الوسيلة المجانية، أي البودكاست، أتاحت له منبراً ليحكي عبره حكايته الساذجة للجمهور بدلاً من أن يلقي حكايته على أصدقائه في المقهى، هذا إن كان لديه أصدقاء من الأساس. على كل حال، تبقى الثرثرة أفضل بكثير من الأجندات وغسل الدماء، كما هو الحال مع بودكاست الخليج.

ما بين القمع والأجندات
هناك آفة كبيرة تصيب البودكاست العربي، وواقع وجود هذه الآفة، يخرج ربما عن إرادة القيمين على البودكاست داخل الوطن العربي، فتُنسب هذه الآفة إلى المنتج. حال البودكاست العربي كحال الكلمة الحرة والصوت الحر، المقموعين سواء في السينما أو الأدب أو البحث العلمي. الآفة تبدأ بالانعطاف الذي أصاب البودكاست ومساره. بينما كان هدف البودكاست خلق إعلام بديل، وتعددية في الآراء والأصوات، إلا أن السياسة لا تزال تشكل «بعبعاً» لمقدمي البودكاست. في الخليج مثلاً، يُستخدم البودكاست للترويج لسياسة الدولة، ولتسويق توجهاتها. في السعودية مثلاً نجد أن بودكاست «فنجان» التابع لمنصة «ثمانية» مصبوب على «التحديث» الذي يشغل تلك الدولة، ومواضيع «ثمانية» مطروحة وفقاً لوجهة نظر الأمير محمد بن سلمان.
يصلح بودكاست «فنجان» وهو البودكاست الأكثر شهرة في الوطن العربي، أن يكون مثلاً جيداً لهذه الحالة. لقد بدأ «فنجان» كمشروع مستقلّ، وفور نجاحه وتحقيقه الشهرة، اشترته الهيئة السعودية للأبحاث والأعلام واستحوذت عليه، لتسخره لمصلحة الدولة، ويسوّق للصورة التي تحاول المملكة العربية السعودية أن تروجها لنفسها بعد الانفتاح المزعوم. عبر حلقات تناقش الاقتصاد، والحداثة، وثنائية نحن وهم أي الإسلام والغرب، وشخصيات مهمة حلت ضيوفاً مثل وائل حلاق وجورج صليبا اللذان حققت حلقتيهما شهرة كان لها صدى واسع جداً جعلت الكثيرين يكتشفون البودكاست للمرة الأولى، استطاعت المملكة العربية السعودية صرف الأنظار عن أفعالها وتقديم صورة «نخبوية» عن نفسها. المثير في بودكاست «فنجان» كيف أنه يغسل الدماء -إلى جانب الكثير من الفعاليات الأخرى الخاصة بالقوة الناعمة- التي تريقها السعودية في كل مكان من الوطن العربي. لا يريد ابن سلمان أن يمجده الضيف أثناء حلقة البودكاست بالتأكيد، فتلك البروباغندا بائدة تعود إلى القرن الفائت، إلا أن ضخامة إنتاج المحتوى على الصعيد المادي خصوصاً كفيل بأن يتشدّق المستمعون -وهذا ما يحدث بالفعل- بمدى التقدم والانفتاح الثقافيين اللذين وصلت إليهما المملكة العربية السعودية. نجح ابن سلمان بأن يجعل الحديث ينصرف إلى بودكاست «فنجان» لا إلى دماء أهل اليمن والسودان.
بالعودة إلى السياسة، نجد أنها أقل الموضوعات التي تناقشها حلقات البودكاست العربي المنتجَة داخل الدولة، أي دولة. يعود ذلك، بالتأكيد، إلى تضييق الخناق والترهيب المستمرين اللذين تمارسهما الحكومات. في مصر مثلاً، فليقُل لي أحدٌ عن بودكاست واحد من ضمن مئات البودكاست الذين ظهروا يناقش موضوعاً سياسياً جاداً غير بودكاست الجامعة الأميركية «حلول بديلة» الذي يحظى بحصانة الباسبور الأميركي، ولا يستمع إليه إلا قلة من سكان البرج العاجي. لقد كان «راضيو كفر الشيخ» مجرد حلقات عبثية ساخرة لا تقدم أي نقاش سياسي جاد أو توعوي، ورغم ذلك فقد مُنع البرنامج واقتُحم مقرّ الصحيفة، وقد كان عبرة لمن يعتبر. بناء على تلك الأزمة السياسية في مصر، تحول النضال في أغلب برامج البودكاست العربي الجادة إلى نضال هوياتي، إذ ترتكز الأفكار الأساسية في برامج البودكاست على سياسة الهويات، وعلى الجندر، وعلى كسر التابوهات بدلاً من النظر طبقياً إلى المسائل السياسية والقومية. فسياسة الهويات تعتبر نقطة استقطاب، وعنواناً للتعبئة الاجتماعية، وربما هذا ما نراه في بودكاست مشهور وهو «جسدي» التي ترعاه شركة «كيرنينغ كليتشرز» -مقرها الإمارات والتي تدعمها مؤسسات مثل «الغارديان»، و«واشنطن بوست»، و«فاريتي»، و«سي إن بي سي»- وتقدمه هبة فيشر. بودكاست «جسدي» الذي يهتم بمعالجة مواضيع جنسية، غير أن بإمكاننا تصنيف طريقة معالجته لتلك المواضيع بالأسلوب الإباحي، وهو أسلوب يتماهى مع اليسار الليبرالي الغربي وأجندته بشكل تام. قد يجوز اعتبار أن تلك المواضيع يجب أن تناقش، وأن يكسر المحرم عبر النقاش فيها، لكن هناك مواضيع أخرى لا تحظى بأهمية كبرى، مثل المجتمعات التي جوعتها سياسات الإمارات العربية المتحدة -عاصمة البودكاست العربي- الدولة التي ترعى مؤتمرات البودكاست، وبيزنس البودكاست، إلى جانب رعايتها للحروب الأهلية والحرب بالوكالة. البودكاست العربي لهو وسيلة لتبييض أيادي الحكومات المتورّطة مثل الإمارات والسعودية وإعطائهما وجهاً تقدمياً ليبرالياً. تمهد قصة البودكاست الرائج في الخليج العربي الذي يطرح نفسه اليوم على أنه مقر التنوير والثقافة، لنكتة ساخرة شديدة الإيجاز قيلت يوماً: «هناك قناعٌ ظن نفسه وجهاً».