رغم وقوعها جماهيرياً في فخ التسلية حصراً، ورغم امتداد أذرع آليات الإنتاج الاستهلاكي لتشملها كأداة تُفعَّل لأجل الترفيه، إلا أن السينما نشأت كخطاب صوريّ، مدلوله «التخريب»، قبل أن تتواجد ضمن أي سياق آخر. عندما ظهر قطار الأخوان لوميير في أول أفلام السينما عام 1985، واتجه نحو الكاميرا، صرخ المتفرّجون خشية أن يتم دهسهم. وفي فيلم «كلب أندلسي» (1929) للمخرج لويس بونويل، شطر الأخير عين امرأة إلى نصفين بموس حلاقة. امتدت القُدرة المُفعمة بكثافة الانفعال إلى زمننا المعاصر، لنراها دماء ذات قدرة على استعادة حيوية الانتقال من الخيال المُركّب إلى واقع عابر للزمن ما زال صداه قائماً، وبنفس القُدرة على عبور الزمن وتخريب الواقع، تحضر صرخة أحد شخصيات فيلم «Psycho» لهيتشكوك التي قتلت في الحمّام.

لدى الصورة قدرة وعلاقة مباشرة على تخطّي تخوم الوعي عند الإنسان، إذ تُمارس تأثيراً مركزياً على الجُمهور. لدى الصورة القدرة على انتهاك تمثيلات القيمة، الدولة، الرقابة، وبشكل رئيسي لديها القدرة على تخريب انطباعاتنا الشخصية والجماعية عن الواقع. يشير الناقد السينمائي آموس فوغل في كتابه «السينما التدميرية» إلى آلية «الهدم» التي ترتكز السينما عليها. تبدأ الآلية شغلها عندما نجلس أمام الشاشة، ويتمركز ضوء العالم حصرياً قبالتنا. هنا تبدأ مسيرة شاقة تخوضها المادة الفيلمية لتُحقق انفصالاً أولياً عن العالم الخارجي، ومع امتداد الزمن الفيلمي، يتم تخريب زمن الواقع وتراجعه أمام سيادة زمن بديل، يتسلّح بالمراوغة لتحقيق قراءة أكثر عمقاً وتعددية لخفايا واقع العالم.
حتى الآن، لم تصل السينما إلى تعريف جامع يولّفها كمفهوم فنّي لأن القاعدة الأساسية في نشاط هذا الفن منوطة بالقُدرة على التجاوز. لذلك تعددت أشكال التخريب عبر الفيلم السينمائي، في تطورات تقنية وسياسية ودلالية متباينة، إلا أن التخريب كقاعدة لا يشترط الثبات الدائم. ظلّت السينما محافظة على وهجها في تفكيك الواقع ومراوغته لإنتاج تنويعات اعتدنا طيّها داخل الوعي، أو في عمل اللاوعي الجماعي على تولّي المسؤولية نفسها.
ترتكزُ السينما في صورتها الجماهيرية الآن على نمطٍ من التزايد يتجاوز التُخمة، الأفضلية حاضرة لأفلام الحركة، أبطال الكوميكس، واستعادة سلسلات الأكشن التي لاقت نجاحاً في أفلامها الأولى سابقاً، فضلاً عن النهم الكبير عند الجمهور تجاه مزيد من أفلام الحركة. يجلس الجمهور أمام الشاشة، ومعه المزاج في «تجاوز» الأشياء: الهموم والعِلل النفسية والذكريات والحوادث العامة، وأمامه نفس الآلية على الشاشة، حراك صوري محموم يُغذي هذه الرغبة الكبيرة؛ علينا أن نتحرك، أن نتجاوز الكوارث، أن نرى أمثولات أُحادية على الشاشة لتخبرنا بأن الواقع أقل تعقيداً من تصوراتنا عنه، وأن هناك بدايات جديدة، ونهايات توفر قدراً معقولاً من السعادة والقُدرة على خلق بدايات جديدة.
على الجهة الأخرى، تُمارس السينما ذاتها، بنفس الأساس التقني، نشاط التخريب في التماسك الظاهري لمآلات هذا العالم، وتسائل ثقتنا الساذجة في قدرتنا على هذا التجاوز الذي نعتبره أساساً في حياتنا، يجعلنا نبدأ وننتهي ثم نبدأ مرة ثانية من جديد. يتجسد التخريب أحياناً بالمطرقة، بالصدام الحاد، والانتهاء ببقايا التصورات المُلفقة منثورة أمامنا، وفي أحيان أخرى يتحقق عبر التدفق الهادئ للمادة الفنّية، التي ترتكزُ على الصُورة الشاعرية بأسسٍ حزينة، تجعلنا ندرك الكارثة ونُشاهدها ببطء، وبعجزٍ كتوم.

لارس فون تراير: العطبُ في مادة الوجود الإنساني
في افتتاحية فيلم «The House that jack built» الصادر عام 2018 للمخرج لارس فون تراير، يقول فيرج لبطل الفيلم جاك، أن رحلة الأخير مثل بقية الرحلات الشخصية الذاتية، تكون حاجة للاعتراف فيها طافحة، رغم أن جاك لن يُقدّم جديداً، وما سيرويه، بالضرورة، يعرفه فيرج.
مثّل حُضور فيرج في الفيلم نفي لإمكانية تقديم أي جديد، ورُبما إقصاء للجانب المُتعلق بتعددية أصداء الحكي عن طريق السينما. قدّم جاك نفسه بشكل تقريري، قاتل متسلسل يُبلور حكايته عبر خمسة حوادث قتل، خلال اثنتي عشرة سنة، وفيرج بما يُمثله من معادل تاريخي يحاجج جاك في آرائه التي تبدأ من ذاته وتتحول إلى الفن والجمال والوجود البشري، والقتل كمبدأ فنّي يُمكن أن يُنتج عملاً استثنائياً.
استبدل لارس فون تراير كل آليات التدفّق الجمالي للحكي بقاعدة أولية. تُمثّل المُواجهة الحادة والعُنف المُباشر، والضربُ بمطرقة كتصدير للإزعاج الذي يبلغُ الذروة، إيمانه بأن هذا العالم في صيغته الحالية لا يُمكن التعبير عنه، أو فهمه، إلا بتخريب كل إمكانات الاستيعاب الهادئ والطمأنينة، لأنه لا يُمكننا أن نقف على حافة الهاوية وننظر إلى جمال الطبيعة خلفنا.
خلال تنظيره الخِطابي، والمُباشر بشكل سلبي من ناحيةٍ سينمائية، يُوازي جاك بين فِعل القتل وبين مواد فنّية أيقونية، مثل معزوفة موسيقية، أو مبنى كاتدرائية قديم، ويرى سمة مشتركة تنطلقُ من «الفناء» بين جثثه المُجمدة في ثلاجة كُبرى يمتلكها، وبين مُختلف أشكال الفنون عبر التاريخ. تُمثل هذه المُقاربة الرؤية المُتطرفة للارس عن الفن، باعتباره ينطوي على أصول تنفي الانطباعات الحميمية عن الجمال، بينما العنصر البشري فيه يتوهّم صدارة خلقه.
يرتكز فعل التخريب في الفيلم على إعادة ترتيب الصدارة الاعتيادية للبشر في خلق ما يمكن أن يكون فناً. تتحول ضحايا جاك إلى مواد أولية لمشروع شخصي. هذه المواد لا تختلف عن أخشاب تمثال أو قوائم مبنى، وتحضيرها –أو تحديداً تحويلها من بشر إلى مواد وجُثث مُتعفنة- يُمكن مُقاربته بصيد أصناف حيوية أخرى مثل الحيوانات. عند التحوّل إلى مادة عبر قاتل سيكوباتي، يتحوّل العُنصر البشري من عقلٍ خالقٍ إلى مادة أولية.
لستُ هنا بصددِ الاتفاق أو الاختلاف مع رؤية ترايير شديدة التطرّف، المهم هنا تتبّع منطقه في السرد، ومركزة العنف باعتباره محوراً له مركزية في القدرة على تتبّع ثنائية العنصر البشري والفن. من جهةٍ تاريخية، يُحيل لارس صوته الصارخ والغاضب في الفيلم إلى زمن الماضي. ففي اعتقاده نحن لا نتحكم في صدى التاريخ ومدى تأثيره، ولا يُمكننا تجاوز الحوادث الكارثية بسهولة، لأنها صناعة بشرية مفعمة بممارسات جماعية. يعيدنا الهوس الغريب لجاك في الفيلم، والذي يُعبر عن خللٍ نفسي، إلى أيقونات تاريخية تمثّل أشخاصاً بما تحويه من أيديولوجيا تدميرية مثل هتلر. يتملّك جاك هوس مُقارب، يتمثّل عُنصر التخريب فيه في التتبّع التفصيلي لآليات في القتل وإنتاج الفن عبر رؤية ذاتية تختلط فيها نرجسية القداسة.
عندما ينتهي جاك من إقامة منزله عبر الجُثث المُجمدة، يسقطُ في الجحيم، لكنه يترك المصير البشري وراءه معطوباً، ليس أكثرُ من مفعولاً به، ليدلل على تفحّش العطب في فكرة وجودنا كبشر داخل عالم نتوهم أننا، وخلال تهوّر تاريخي لا يُغتفر، لدينا القُدرة على تغييره، فضلاً عن القُدرة على أن نكون فاعلين فيه.

مُعلّمة البيانو: هل ينهار كل شيء أمامنا، ونقف مُتفرجين؟
بينما تظهرُ السينما كخطاب معرفي، وتنظيري أحياناً، في أفلام لارس فون تراير، فإنها تتجلى بأشكال معاكسة في أفلام مايكل هانيكي. الأخير يجعل سمة التدفق الفنّي حيث البطء والاستغراق الطويل في الحالة الشعورية للشخصيات، مادة لقراءة العالم. ومع ذلك فإن التخريب باعتباره ضرورة أساسية في التناول، يوضع كثيمة مشتركة لرؤية المُخرجَين للعالم.
في فيلم «the piano teacher» يطلق هانيكي فِعل الفهم عبر التخريب عبر تتبّع حياة طافحة بالخلل والموهبة لإحدى مُعلّمات البيانو. لا زمان مُعروف هنا والمكان ليس أكثر من إشارات أولية، بينما الأساس في العرض منوط بالاقتراب التفصيلي من العفن في السرديات الاجتماعية التي تُمثّل المنظومة العاطفية للوجود الإنساني المُعاصر.
تحظى إيريكا بحياة قائمة على انتشار العطب من جهة، والتشوهات الناتجة من السلبِ من جهة أخرى. علاقتها مع والدتها سامة. هناك شيء من التملّك من قِبل والدة إيريكا على حياة ابنتها. لا يُحبذ هانيكي التعبير عن مُفردات هذه العلاقة، وانعكاسها على شخصية إيريكا، عبر آليات تجلبُ التعاطف، بل يظهر تطورات إيريكا عبر تبعات الأحداث التي تجعل من الشخص غير صالح للعيش، لا تشفعُ له الموهبة، ويغدو الحب نشاطاً جنسياً مشوهاً حينما تُصبح طرفاً فيه.
تفتقد إيريكا الساكنة في قلب أوروبا الحديثة، إلى الانطباعات الأولية عن إمكانية الوعي بذاتها. تظهر ببشرة بيضاء وطباع إنسان الغابة. تذهب إلى غرف عرض أفلام إباحية وتتفقد أثر الرجال. مع تخلّص الجنس في الفيلم من إمكانية أن يكون لذة شبقية خارج سياق المأساة، وتحوّله إلى لذة تنافسية تخضع لتغيرات مراكز القُوى، تحضرُ الموسيقى كأساس شاهد على هذه التشوهات، وتخرج عن التصورات المثالية التي ارتبطت بها، وبما تمثله من أخلاقيات الرُقي والمدنية ناجمة من أساس تنويري أوروبي. تقوم المقطوعات الموسيقية المعترف بها كونها «أسس جمالية» بالتماهي مع تداعٍ وجودي في حياة إيريكا حينما يتجلى خللها النفسي أكثر، ويدخل في إطار الوعي الخارجي للفيلم، يكون مُباشراً، رغم تدفقه يتّسمُ بالحدّة، ويُصبح التداعي حراً.
ربما كان نشاط التخريب في السينما سابقاً، أكثر نعومة وأقل وطأة من صورته الحالية، لكن هذه الرؤى القاتمة لم تولّد نفسها من فراغ، بل اتّكأت على خلفية حوادث تاريخية شاهدة، وتداعٍ في حياتنا المُعاصرة يفرضُ نفسه باعترافنا، أو من دونه، لأن بيانات المُقاربة بين القراءة السينمائية والحوادث الواقعية تفرض نفسها، وتخبرنا أن الوقوف على الهاوية لا يُمكنه أن يُقدّم عبر حكايات جميلة، بل يلزمه بالضرورة تخريبٌ لهذه التصورات الساذجة.