خلال الأزمة المالية العالمية التي تسبّب فيها جشع المصرفيين الأميركيين عام 2008، ظهرت على سطح الإنترنت ورقة تضمن أمراً غير عادي. تقنية تدعى بلوكتشاين، تريد أن تكون بديلاً عن النظام المصرفي العالمي. وسيلة تسمح بنقل الأصول (مال، ممتلكات) بشكل فعّال وآمن عبر الإنترنت من دون الحاجة إلى وسيط مثل المصرف أو غيره. شبكة عالمية خارج منظومة الدولار الأميركي، لا يملكها أحد، لا دولة ولا حكومة ولا أفراد، إنما الناس كلهم. ثم، في عام 2009، الشخص نفسه، وهو غير معروف حتى هذه الساعة، ويُدعى «ساتوشي ناكاموتو»، وضع ورقةً جديدة، تضمن عملة مشفرة مرتبطة بالبلوكتشاين، تدعى بتكوين. ومنذ ذلك الوقت، تغيّر العالم كله.
كيف تعمل؟
بتكوين وبلوكتشاين ببساطة، هما وسيلتان تسمحان بنقل القيمة من أي شخص إلى آخر عبر استخدام كومبيوتر أو هاتف ذكي وإنترنت. لكن ما أهمية ذلك؟ وما الثوري في القصة؟
في عالمنا، عندما يريد شخص أن يرسل مبلغاً من المال إلى شخص آخر بطريقة رسمية تثبت أنّه أرسل المال وأن الطرف الثاني استلمه، سيفعل ذلك عبر مصرف أو جهة قانونية أو مؤسسات خاصة. بكلمات أخرى، الطرفان بحاجة إلى جهة أخرى: طرف ثالث. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بيع سيارة أو شراء منزل... وقد يكون الطرف الثالث جهة حكومية. لكن ماذا لو كانت هناك طريقة تسمح لنا بفعل ذلك من دون طرف ثالث؟
يمكننا أن نتخيّل أنّ بلوكتشاين عبارة عن كتاب سحري يمكن لأي شخص أن يحصل عليه. ولأنّه سحري، عندما نكتب جملة في صفحاته، ستظهر عند كل من لديه نسخة منه! ليس هذا فحسب، بل أيضاً لا يمكن محو أو تعديل أي كلمة كُتبت فيه. يمكننا فقط كتابة سطر جديد يفيد بأنّنا عدلنا جملة قديمة، مثل فكرة أن القانون لا يلغى إلا بقانون.

شبكة تسحب السلطة المالية التي تفرضها الولايات المتحدة

مصطلح بلوكتشاين في اللغة العربية هو «سلسلة الكتل». ويمكن لنا أن نتخيل أنّ كلّ مستخدم للشبكة يملك سلسلة من المعدن (جنزير). وكل حلقة من السلسلة تحتوي معلومات عن أصل يملكه بشكل مشفّر. مثلاً، لديه ألف دولار مسجلة في الحلقة الأولى من السلسلة، ويملك منزلاً مسجلاً في الحلقة الثانية، وهكذا لكل شخص موجود في الشبكة. وداخل كل حلقة، بالإضافة إلى ما سبق، معلومات عن الحلقة السابقة. من هنا، أتت تسمية «سلسلة الكتل».
عندما نريد إرسال المال من شخص إلى آخر عبر بلوكتشاين، تقوم الشبكة بأمر مثير: تطلب من كل شخص لديه كومبيوتر يحتوي برنامج بلوكتشاين خلق حلقة جديدة أو بلوك في أسرع وقت ممكن. وأوّل من يقوم بذلك، تكافئه بلوكتشاين بعملة مشفرة تدعى بتكوين. يُطلق على هؤلاء الأفراد تسمية «معدّنين». عندما يُخلق البلوك الجديد، توضع في داخله معلومات تفيد بأنّ شخصاً أرسل مالاً إلى آخر، ويثبّت بلوك في سلسلة الأول يفيد بأنّه بات يملك هذا المبلغ. ويُخلق بلوك آخر ويثبت لدى الشخص الذي أرسل المال يفيد بأنّه المُرسل. كل هذه المعلومات الجديدة تصبح مسجلة على الشبكة، وبالتالي كل شخص لديه برنامج بلوكتشاين، سيجد أنّ الشبكة حدّثت نفسها. لا يستطيع أي شخص التلاعب أو سرقة بلوك ليس له. بالعودة إلى مثال الكتاب السحري، إذا حاول شخص محو كلمة أو تعديل سطر في الكتاب الذي يملكه قبل تسجيل المعلومات، تراجع الشبكة ما فعله مع أكثر من نصف الكتب الأخرى. وإذا تبيّن أنّ ما أضافه غير مكتوب لدى هؤلاء، يُشطب ما حاول القيام به. لهذا، تعتبر شبكة بلوكتشاين الوسيلة الأكثر أماناً. لا يمكن لشخص أن يقرصن بيانات ويسرق مالاً أو ممتلكات ويضعها باسمه. ولفعل ذلك، عليه قرصنة أكثر من نصف الكتب الموجودة في الشبكة في الوقت نفسه. أمر لن تستطيع فعله أقوى الجيوش الرقمية، وخصوصاً أن تلك الكتب موزعة في كل بقاع الأرض بشكل لا مركزي يضمن عدم سيطرة أي جهة عليها.

خلق العملات
كما أشرنا، تُخلق عملة بتكوين المشفرة نتيجة مكافأة الشبكة لمن قام بخلق بلوك جديد. وكلما كانت الحواسيب التي يستعملها أقوى، كلما كبرت فرصة خلقه البلوك بأسرع وقت. لهذا، تتطلب هذه العملية طاقة كهربائية عالية. وبعضهم حول العالم امتهن هذه المهمة، وأنشأ محطات كبرى تدعى مزارع تعدين وضعوا فيها آلاف الأجهزة.
بتكوين هي العملة المشفرة الأشهر على الإطلاق. وسيكون هناك 21 مليون عملة منها فقط. تم خلق 19,413,325 حتى الآن، ويتبقى 1,586,675. يمكن للأشخاص أن يشتروا العملة بشكلها الكامل، أو أجزاء منها حسب القدرة المالية لكل منهم. ويُحتفظ بها في محفظة رقمية، أو على الكومبيوتر أو داخل «فلاش ميموري» مشفرة مخصصة لذلك.
كل عملة غير بتكوين تدعى ALT COIN اختصاراً لـ Alternative Coin، بمعنى عملة مشفرة بديلة عنها. هذه التسمية ليست تفصيلاً، فهي تقول بشكل واضح إنّ البقية ليست العملات المشفرة التي أتى بها ذلك الغريب، ساتوشي ناكاموتو. ولا تعمل غالبية تلك العملات وفقاً لمبدأ عمل بتكوين نفسه. فجزء كبير منها ليست لديه شبكة بلوكتشاين خاصة به، ولا يمكن تعدينه، بينما خلق صنّاعها العملات كلها ووضعوها في السوق من أجل التداول. اليوم، هناك أكثر من 23 ألف عملة مشفرة، معظمها بلا جدوى وهي مشاريع نصب تعمل بفكرة Pump and Dump. إذ تُطلق عملة جديدة، يتهافت الناس إلى شرائها، فيرتفع سعرها آلاف الأضعاف، ومن ثم يسحب من أنتجها المال ويختفي. وبعضهم يكون محظوظاً، فيُخرج أرباحه قبل لحظة الصفر. هذه أمور تجري يومياً في عالم الكريبتو، فيما يتمّ إنتاج بعض العملات عبر امتلاك جزء منها وتجميدها في صندوق أصول يخلق المزيد منها مثل عملة إيثيريوم، ثاني أكبر العملات بعد بتكوين.

نظام مالي لامركزي
بتكوين وشبكتها بلوكتشاين، هي أول بنية تحتية لنظام مالي ونقدي عالمي لا مركزي (لا يملكها أحد وموزعة حول العالم). مثلاً، نظام الـ «سويفت» الذي يحكمه الدولار الأميركي أساسي للدول حول العالم. عندما تدخله، يصبح في إمكانها إرسال واستلام الدولار وإنشاء المصارف، وكذلك يصبح في إمكان الناس امتلاك بطاقات مصرفية. لكن هذا يفرض أن تكون الولايات المتحدة راضية عن هذه الدولة، وإلا فستحرم من جنة الـ «سويفت»، كما حصل مع روسيا وكوبا وإيران وغيرها. هنا، يأتي دور بتكوين وبلوكتشاين كنظام مالي بديل يمكن أن تستخدمه مجموعة الـ «بريكس» إذا أرادت، ويمكن لأي دولة أو جهة التحايل على العقوبات الأميركية المالية عبره. بتكوين خصم للدولار من ناحية القيمة والسلطة. بالنسبة إلى القيمة، الدولار الأميركي منذ عام 1971 يخسر قدرته الشرائية. فما كان تشتريه 12 دولاراً عام 1960 أصبح يساوي أكثر من 100دولار اليوم. لماذا؟ عام 1971، تم فك ارتباط الدولار بالذهب، أي إنّ طباعته من دون قيمة تغطيه. وسمي هذا بصدمة نيكسون (نسبةً إلى الرئيس الأميركي حينها ريتشارد نيكسون). ومن ثم نجحت مساعي هنري كيسنجر عام 1973 في صناعة اتفاقية البترودولار، حين وافقت السعودية على بيع النفط بالدولار الأميركي حصراً مقابل اتفاقيات أمنية أميركية. لكن ذلك لم يمنع فقدان الدولار لقيمته سنوياً. وفي حال اعتماد منظومة بتكوين وشبكتها بين الدول، ستسحب السلطة المالية التي تفرضها الولايات المتحدة على العالم، وتضعها بين أيدي الناس. ومن هنا، ليس عبثاً أن يكون ساتوشي ناكاموتو قد أطلق هذه الثورة المالية غداة الأزمة المالية عام 2008. إنّها انتقام واضح ضد سطوة الدولار.