في عام 1998، أبصرت شركة غوغل النور على يد عالمَي الكمبيوتر الأميركيين لاري بايج، وسيرغي برين عندما كانا طالبي دكتوراه في جامعة «ستانفورد». سرعان ما انتشر المحرك البحثي متخطياً منافسين بارزين حينها على رأسهم «ياهوو». سرعان ما بات الأكثر استخداماً حول العالم، إذ تشير آخر أرقام شركة Similarweb لعام 2022، إلى زيارة موقع غوغل بمقدار 89.3 مليار مرة كل شهر. ونسبة استخدام غوغل حول العالم عن سائر محركات البحث هي 91.9%. نظرياً، يمكن باختصار وصف غوغل بأنّها حارس بوابة الإنترنت. علماً أنها مملوكة من شركة أم تدعى «ألفابت»، تبلغ قيمتها الصافية حوالي 1.6 تريليون دولار، وتشكّل واحدة من مجموعة شركات في مجال التكنولوجيا يُرمز لها بـ«الخمسة الكبار» (ميتا، وآبل، وألفابت، ومايكروسوفت وأمازون)في السنوات الماضية، تصاعدت نبرة واشنطن ضد الاحتكار الذي يقوده عمالقة التكنولوجيا (في السياسة الأميركية الداخلية، هناك خوف دائم من قيام شركة باحتكار كبير مثل شركة النفط Standard Oil Trust، التي جُزّئت إلى 34 شركة عام 1911 بقرار من المحكمة العليا الأميركية).

(نهاد علم الدين)

قاد هذه الحملة ضد عمالقة التكنولوجيا، أقطاب الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي الأميركي، أمثال إليزابيث وارن وبيرني ساندرز. على المقلب الآخر، كانت معركة الحزب الجمهوري مع هؤلاء تتلخّص في أن تلك الشركات تقمع تصدير سياسة الحزب إلى الناس، وهذا حديث لمقالٍ آخر. تنتشر بين أوساط رواد الأعمال والمبرمجين والمبتكرين في الولايات المتحدة، عبارة مفادها أنّ كل ما علينا فعله هو تصميم منتج جيّد لتأتي إحدى تلك الشركات الخمس وتشتريه. تحمل هذه العبارة في طياتها أمراً بالغ الأهمية يختصر المشهد بأكمله. أصبحت تلك الشركات كبيرة إلى درجة أنه لم تعد هناك قدرة على منافستها. حتى فكرة صنع منتج والتفوق عليها، لم يعد أمراً يمكن تخيّله. كي نفهم حجم القوة التي تملكها مجموعة الخمسة الكبار، يمكن الإشارة إلى مقال نشرته «فورين بوليسي» بتاريخ 17 حزيران (يونيو) الماضي للعالم السياسي إيان بريمر. تحت عنوان The Next Global Superpower Isn›t Who You Think، يتحدث بريمر عن عالم تتواجد فيه ثلاث قوى عظمى. الأولى تسيطر على الأمن والعسكر هي الولايات المتحدة، والثانية تتحكم بالاقتصاد العالمي والتجارة وهي الصين، وأخيراً قوة عظمى ثالثة قادمة هي عمالقة التكنولوجيا. والأمر ليس تفصيلاً، فتلك الشركات باتت قادرة على ليّ أذرع دول وحكومات. وتستخدم في ذلك كل ما يمكن من أدوات الضغط التي يستطيع الثراء الفاحش شراءه.
تستند القضية ضد غوغل إلى «قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار» لعام 1890. قانون يحظر الاحتكارات والممارسات التجارية غير العادلة التي تحدّ من المنافسة وتضر المستهلكين. وتدّعي وزارة العدل الأميركية وائتلاف من المدعين العامين في الولاية أن شركة غوغل قد انتهكت هذا القانون من خلال الانخراط في سلوك مناهض للمنافسة من قبيل: دفع مليارات الدولارات لشركات صناعة الأجهزة، مثل «آبل» و«سامسونغ»، وشركات برامج تصفح الإنترنت، مثل «موزيلا فايرفوكس» و«مايكروسوفت إيدج»، لجعل غوغل محرك البحث الافتراضي على منتجاتها، إلى جانب استخدام موقعها المهيمن في البحث عبر الإنترنت لتفضيل منتجاتها وخدماتها، مثل «خرائط غوغل»، و«غوغل للتسوق»، و«يوتيوب»، على منتجات وخدمات المنافسين، واستبعاد محركات البحث المنافسة، مثل «بينغ» و«DuckDuckGo»، من منصاتها مثل نظام التشغيل «أندرويد» ومتصفح «كروم»، وأخيراً تقييد قدرة المعلنين والناشرين على استخدام منصات أو أدوات أخرى للإعلان عبر الإنترنت. وتدّعي وزارة العدل أن هذه الممارسات منحت غوغل ميزةً غير عادلة على منافسيها وأضرّت بالمستهلكين من خلال تقليص خياراتهم، وزيادة تكاليفهم، وخفض جودة الخدمات، والمساس بخصوصيتهم.
«أدوات التحقق من الحقائق» تهدف فعلياً إلى القضاء على أي معارضة


من جانبها، نفت غوغل هذه المزاعم وانتهاكها أي قانون. ادعت أنها تواجه منافسة قوية في أسواق البحث والإعلان عبر الإنترنت من منافسين مثل «أمازون» و«فايسبوك» و«مايكروسوفت». كما زعمت أنها تقدم خدمات قيّمة للمستهلكين مجاناً أو بأسعار منخفضة، وتتيح لهم التبديل بسهولة إلى خيارات أخرى إذا لم يكونوا راضين. ودافعت أيضاً عن اتفاقياتها مع صانعي الأجهزة والمتصفحات باعتبارها «صفقات تجارية مشروعة تعود بالنفع على الطرفين والمستخدمين».
من المتوقع أن تكون المحاكمة معركةً قانونية معقدة وطويلة تشمل أدلة واسعة النطاق وشهادات الخبراء والحجج القانونية من كلا الجانبين. كذلك، سيُستدعى شهود من «آبل» و«مايكروسوفت» وغيرهما من الشركات. وسيتعين على القاضي أميت ميهتا (عيّنه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عام 2014) الذي يشرف على القضية من دون هيئة محلفين، أن يقرر ما إذا كانت غوغل قد انتهكت بسلوكها قانون مكافحة الاحتكار وأضرّت بالمنافسة والمستهلكين. وسيقود المحامي المخضرم كينيث دينتزر، الذي يعمل لدى وزارة العدل منذ ثلاثين عاماً، مرافعات الحكومة في قاعة المحكمة، في حين سيدافع جون إي. شميدتلين، الشريك في شركة المحاماة «ويليامز آند كونولي»، عن شركة غوغل. وقد عيّنت وزارة العدل وغوغل أكثر من 150 شخصاً في هذه القضية، وجُلب أكثر من 5 ملايين صفحة من الوثائق. يُذكر هنا أنّ جوناثان كانتر، رئيس قسم مكافحة الاحتكار في وزارة العدل الأميركية، عمل سابقاً كمحام خاص يمثل شركة «مايكروسوفت» و«نيوز كورب»، وتقول غوغل إن كانتر متحيّز ضدها. في المقابل، اتهمت وزارة العدل غوغل بتدمير الرسائل النصية للموظفين التي كان يمكن أن تحتوي على معلومات ذات صلة بقضية الشركة. إذا حكم القاضي لصالح المدعين، فيمكنه أن يأمر غوغل بتغيير ممارساتها التجارية أو حتى تفكيك عملاق محركات البحث في سابقة تاريخية. وإذا حكم القاضي لصالح غوغل، فيمكنه رفض القضية أو الحكم بأن سلوك الشركة له ما يبرره من خلال كفاءتها أو ابتكارها. في كلتا الحالتين، ستكون للنتيجة آثار كبيرة على نموذج أعمال غوغل ومستقبل صناعة الإنترنت. ويمكن أن يشكل ذلك أيضاً سابقة في قضايا مكافحة الاحتكار الأخرى ضد شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل فايسبوك و«أمازون» و«أبل»، التي تواجه بالفعل تدقيقاً من الجهات التنظيمية والمشرعين في مختلف أنحاء العالم.
في ما يعنينا، نحن المستخدمون حول العالم، علينا التنبّه دوماً من الأحداث التي يُضاء عليها بكثرة. في تلك المحطات، علينا أن ننظر إلى الجانب المعاكس. عندها، سنجد أنه في السابع من آب (أغسطس) الماضي، غيّرت غوغل الإنترنت إلى الأبد. وفق بيان وزّعته رئيسة «مبادرة أخبار غوغل» لاتويا دريك عبر البريد الإلكتروني، لقد قُدّمت أداة الرقابة العالمية الجديدة على الإنترنت من غوغل. تسميها الشركة بـ«أدوات التحقق من الحقائق»، لكنّ غرضه الفعلي يتمثّل في القضاء على معارضة أي موضوع تختاره هي. أما شركاؤها في المشروع، فهم الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى 71 صفحة من الشركاء الآخرين المدرجين على الموقع الإلكتروني. صُمِّمت خوارزميات الأدوات الجديدة بهدف حذف مواقع الويب التي تنتقد موضوعات مثل: إحصائيات كوفيد-19، البنك الدولي، إحصائيات الجريمة لمكتب التحقيقات الفيدرالي وغيرها من الأمور الحساسة والشائكة. هذه الخوارزميات محاولة من غوغل للسيطرة على الإنترنت. والهدف هو الحصول على وجهة نظر واحدة عالمية حول كل الأحداث، تسميها غوغل «مشاع البيانات» (Data Commons). التحكم بمحتوى الويب كان دائماً حلماً للشركات الكبرى ولبعض الرؤساء. حاولت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، تمرير ذلك عبر قانوني Sopa وPipa، لكن ثوار عالم الديجيتال أوقفوهم. وكان من بين هؤلاء، أحد أفضل أبناء الإنترنت، المبرمج آرون شوارتز، الذي وُجد جثةً هامدةً تتدلى من مشنقة في شقته في بروكلين في 11 كانون الثاني (يناير) 2013.