كيف أتيت إلى المسرح ؟ طفولتي هي النبع الأوّل في بناء مشاعري ووجداني وإيماني وموهبتي، أي الخزّان الوجداني الغارق بين الوعي واللاوعي. أنا ابنُ مدينة زحلة جارة الوادي، وهي فردوسي الأرضيّ، وابن الدوحة المعلوفيّة التي نشأتُ فيها وفي روعِي أنّ «المَعالِفة أهلُ شِعر، صانوا لغة الضاد قبل انفجار سدّ مأرب وما زالوا». تولّعت منذ صغري بالمسرح، بعدما رافقت والدَتي صغيراً لمشاهدة مسرحيّة «صلاح الدين» لفرح أنطون. بعد ذلك، كنتُ أدهنُ وجهي بالمساحيق، وأقِفُ أمام المرآة لأمثّل دور البطل المُتخيِّل أمامي. في السادسة عشرَة، كتبت مسرحيّتي الأولى «داوود»، مأساة من فصلين، شِعراً على البحر الخفيف، أخرجتها ومثّلتُ فيها دور الملك «داوود». تعلّقت جداً بالمسرح الإغريقي أدباً وفكراً ومسرحاً، وسرّ ذلك التعلّق يعود إلى علمِ نفس الأنساب لأنّ الإنسان يحملُ، في لاوعيه، جدودَه، حروباً وجراحاً ومواهبَ. فمن شاء أن يَلِجَ ذاتَه بحثاً عن هُويّتِه، عليه أن يتسلّق شجرة السلف، ولرُبّما عثرتُ على الجواب حيث قرأتُ أنّ آل بحري، أخوال أسعد معلوف والد جدّي، أصلهم يونان، وأشهرهم في القرن التاسع عشر الكاتبان المعلّم عبّود وحنّا بك. أمّا جدّي أنطون فكان بارعاً في سرد حكايات الشتاء الزحليّ، حول موقد النار.

أنطوان معلوف: تعلقت جداً بالمسرح الإغريقي أدباً وفكراً ومسرحاً


ماذا أعطاك المسرح؟ وماذا أخذ منك؟
أكسبني خبرةً مشرقيّةً أصيلة، لا سيّما بالمأساة والمأساويّة التي كنت مستعداً لها، فلاقيتها في عمق كينونتي وحياتي الشخصية ترجمةً لمفهومها الفريد من نوعه في الأدب العربيّ. هي علاقة تفاعلية بالاتجاهين. تمثّل ذلك في كتابي «المدخل إلى المأساة والفلسفة المأساويّة»، الذي قال فيه الأب الدكتور نويا، أستاذ الفلسفة والتصوّف في جامعة السوربون إنّه أتمّ وأعمق ما كُتِبَ بالعربيّة في موضوع المأساة والمأساويّة. كما اعتُبِرَ أول كتاب عربيّ يبحثُ في المأساة. لقد مددت جِسرَ تواصلٍ مع الفكر النقدي للمسرح ومع أرسطو والمأساة. منذ أرسطو لم يعرف التعريب أو النقد في العالم العربيّ كتاباً يبحثُ في المأساويّ .

أنت رائد التأليف المسرحي اللبناني منذ مسرحيّتك الشهيرة «الإزميل». ما أهميّة النصّ والتعدّديّة (تأليف، تمثيل، إخراج ) في العمل المسرحيّ؟
- «الإزميل» كانت فاتحة المسرح اللبنانيّ الحديث، وكانتْ حلاً لمشكلة كبيرة هي فقدان النصّ المسرحيّ المكتوب باللغة العربيّة التي واجهتها لجنة «مهرجانات بعلبك الدوليّة» التي تأسّست سنة 1956، وكان لها دورٌ فاعلٌ في النهضة الثقافيّة الفنيّة العربيّة. لا أؤيد مقولة أنّ لا حاجة للنصّ المسرحي، ما دام المخرج قادراً على تحويل أيّ نصّ إلى عمل مسرحي. صحيح أنّ النصّ المسرحيّ لا يبلغ ملء ذاته إلّا ممثّلاً على خشبة المسرح، لكنّه الأساس والأصل ولا غنى عنه. لذلك أعدتُ للنصّ المسرحيّ المكتوب حُرمته. وللعلم فإنّ بعض الإحصاءات بيّنت أنّ قرّاء مسرحيّات شكسبير يُزاحمون عدداً قرّاء الكتب الدينيّة. وفي هذا الإطار، أؤمن بديموقراطيّة المسرح المبني على التعدّديّة، وقوامها النصُّ وكاتبُهُ، والمخرج، فالممثّل. وهنا يكمُنُ سرُّ المسرح وسِحرُه، فللمخرج منظورُهُ للنصّ يُضفي عليه ما يختزنُهُ في وُجدانِه من ثقافةٍ أدبيّةٍ وفنيّة. وللممثّل دورٌ مهم في إبراز الشخصية المسرحيّة من دون التخلّي عن أصالتِه وأصالتِها. أضِف إلى ذلك أنّ الأعجوبة في المسرح، هي التفاعل الحيوي الذي يُثيره النصّ، بوساطة المخرج والممثّل في وُجدان المشاهد.

ما مفهوم الرؤيا المسرحية عند أنطوان معلوف؟
المسرح هو المكان القدسيّ لصانعه، وزمانه القدسي الذي يبدأ بعد الدقّات الثلاث، وارتفاع الستار، حين يبدأ الاحتفال. فالمبدع ينطلق من العالم ومن الإنسان، ويعلو، وفي علوّه يراهما في العمق، في الحقّ، في المصير. والمُشاهد عندما يدخل قاعة المسرح، يترك وراءه الخواء الرهيب في حياة البيت والمكتب والمتجر والشارع. إنّه راغبٌ في أن يلقى الحقّ والمُطلَق حيث تبلغ الأشياء تمامَها. لا شيء يُسقِطُ عن المسرحيّة المكتوبة «مسرحيَّتها» إلّا غياب الرؤيا، فالكاتب المسرحيّ برأيي، مهما يكن بارِعاً في رسم الشخصيّات وتدريجِ العمل الدراميّ، فإنّه يبقى ثانويّاً إنْ لم يكن صاحبَ رؤيا حارّة تتناول مصيرَ الكون، ومصيرَ الإنسان. والرؤيا شِعرٌ، فالمسرح شِعر.

ما أهمية علاقتك كمسرحي عربي بالمسرح اليونانيّ المأسويّ؟
ـــ لقد كان في روعي هاجِسان: الأوّل تلقيح الأدب العربيّ بالأدب اليونانيّ المأساويّ القديم حتّى لا يبقى يَخبِط بين التقليد (تقليد قُدامى العرب) والتَّجديد على طريقة المحدّثين في الغرب لكن بدون العودة مِثلهم إلى الجذور، وهي يونانيّة مأساويّة في الغالب. تجربة حاولها العرب أيّام العبّاسيّين على يد نقَلَة الفلسفة اليونانيّة السريانية إلى العربية، فأشرقَ على العرب والشعوب الخاضعة لهم فجرُ عصرٍ ذهبيّ. الهاجسُ الثاني هو محاولة كتابة مأساة بالعربيّة، وقد فعلت ذلك في أكثر من نصٍّ، فانقلب الهاجسان واقعاً يَمحضان الفِكر والذّهنيّة بأشياء من الرؤيا المأساويّة القائمة على مُجابهةِ المَصير، وخلعِ الأقنعة، والصِّدقيّة مع الذات والآخر، وروح البارادوكس القائم على المناقضة الديناميّة لا الأحاديّة الرَّتيبة، وتصوّر التاريخ خطّاً مستقيماً لا دائرة تُكرِّرُ ذاتَها.

ما هي ممكنات اللغة المسرحيّة عند أنطوان معلوف؟
ـــ المسرح ساحة الكلام العملي. إنّه لغة الدراما التي تعني العمل، وصارت لاحقاً تعني المسرح. ليس في لغة المسرح، كلامٌ مجّاني لا يُشارك في العمل الدرامي، وكلُّ شطحة عن العمل في المسرحيّة، أكانت غنائيّة أو ملحميّة أو فلسفيّة، لا يجوز أن تأتي إلّا في موضعها من العمل وأن تكون موجزة بدون إسهاب وموحية بدون تفاصيل. هذه هي نظرتي للغة المسرحيّة، التي أصبحت واقعاً لديّ عندما توسّلتها تلقائيّاً في نصوصي المسرحيّة. لقد استطعت بأسلوب حواريّ رفيع المستوى، أن أجمع بين فرضين مختلفين للّغة: الأوّل أنْ تكون قريبة من اللّغة العفويّة المباشرة لأنّها تعبير عن التحام البطل بالواقع والعالم. والثاني أن تكون شعراً لأنّها لغة احتفال. من هنا، كثرت الحوارات القصيرة في مسرحي، وهذا ما جعل النص رشيقَ النقلة، لَبِقاً، يُلامِسُ ذهنَ القارئ ـــ أو أذنَ المشاهد ــــ ملامسةً فيها أُنسٌ وشفافية. وهذه المقاطع القصيرة الكثيرة تُعطي النصَّ الدراميّ ديناميّةً يَسهَلُ على المستمع أو القارئ أن يتلقَّفَها، وهي تعبِّرُ عن مواقفَ أو أعمالٍ بطريقةٍ مختصرة وواضحة. لقد كَتَبتُ نصوصي باللغة الفصحى وشعراً حتّى يفهمَها القارئ نفسه، لأنّه لا يليقُ بالمأساة غير الشعر. وبالشِّعر، يُعبِّرُ الكاتب بطريقةٍ أفضل عن الانفعالات والحالات النفسيّة المختلفة التي تميّزُ كل شخصيّة مسرحيّة من غيرها على خشبةِ المسرح. اللغةَ المسرحيّة فنّ، تتعالى من دون إغراق في الغموض والحذلقة والشعريّة الصرف، فهي لغة أنيقة، كريمة، لا تبتذل ولكنها في الوقت عينه تتواضع حتّى تصبح في مستوى إدراك المشاهدين. إنّها تقرن اللغة المحكيّة إلى اللّغة المكتوبة قِراناً لا يَغرقُ في الواقعِ الفجّ ولا يشطحُ إلى المثاليّة الأثيريّة.
فالكاتب المسرحيّ برأيي، مهما يكن بارِعاً في رسم الشخصيّات وتدريجِ العمل الدراميّ، فإنّه يبقى ثانويّاً إنْ لم يكن صاحبَ رؤيا حارّة تتناول مصيرَ الكون، ومصيرَ الإنسان.