عَبَرَت ريم بنّا (1966 ـــ 2018)، بصوتها وموسيقاها، الأراضي المحتلة. بأهازيج وتهاليل فلسطين التراثية، كسرت جبروت العدو الإسرائيلي. ابنة الناصرة التي رحلت بعد صراع مع المرض الخبيث، هجرت «الحلم» و«شمس الهوى»، اللتين تعكسان عراقة فلسطين. وظلت دندنة «يا ليل ما أطولك» تصبّر أهلها المقاومين. على خشبة «مسرح المدينة»، ستُحكى اليوم قصة ريم بنا، في مسرحية تحمل عنوان أغنيتها «يا ليل ما أطولك» (إخراج: سليم الأعور. إعداد وتمثيل: روان حلاوي). قبل رحيلها، كانت الفنانة الفلسطينية قد أعطت المخرجة والممثلة المسرحية اللبنانية روان حلاوي مجموعةً من المواد الصوتية. كانت رغبة ريم واضحة: «أرادت الصعود على خشبة المسرح، لتسرد أجزاء مخبأة من حياتها»، تقول لنا حلاوي، مضيفة أنّها التقت ريم قبل سنوات، في أحد مقاهي الحمرا، واتفقتا على تأليف مسرحية، تحاكي مواجع ريم ومراحل أساسية من حياتها. لقاء المصادفة هذا، كانت نهايته حزينة. توفيت ريم، قبل أن تحقّق رغبتها بأن تكون بطلة المسرحية. تقول حلاوي في هذا الإطار: «كأن ريم بنا، حمّلتني أمانةً قبل وفاتها، بخاصة أنه كان مقرراً أن تؤدي هي نفسها، دورها، لكن الموت خطفها قبل الأوان». لذلك، جرى العمل بشكل حثيث، على مدى سنوات، لإنضاج المشروع، وإكماله بصيغة مغايرة.

قدّمت التهاليل والفولكلور الفلسطيني بنَفَس حداثي

إذاً، تستند بيوغرافيا «يا ليل ما أطولك» على مادة صوتية، قوامها حوالى 19 تسجيلاً، بصوت ريم. تسرد الأخيرة هنا تفاصيل كثيرة حول حياتها. تحوم بنا هذه التسجيلات، في فضاءات ريم وعلاقتها الحميمية بالأماكن، من الناصرة، في شمال فلسطين، وأشجار الخرّوب الأخضر، التي ترعرعت في فيئها... مروراً بمكان جلوسها في بيتها العتيق، المترامي على سفوح المدينة المحتلة، وصولاً إلى فضاءات غير مرئية، تحاكي خيال صاحبة ألبوم «قمر أبو ليلة» (1995). يركّز العرض على مرحلة أساسية في مسيرة ريم، عندما بدأ صوتها يخفت، جراء شلل في الوتر الصوتي الأيسر. «عند لقائي الأول بريم، كان صوتها خافتاً، لكن إصرارنا حتّم ضرورة إعلاء صوتها، كما كانت تفعل دوماً»، تقول روان حلاوي. كيف يمكن لصوت فلسطين المقاوم، أن يخفت في يوم من الأيام؟ كيف يمكن للتهاليل الفلسطينية التراثية، التي تمتزج بالموسيقى المعاصرة، أن تضمحل؟ تأتي مسرحية «يا ليل ما أطولك»، لتُعيد طيف المغنية الفلسطينية، وحضورها في نفوسنا. يبتعد النص، عن سرد الحياة الفنية لمغنية فلسطين التي يعرفها الجميع، وفق ما تقول حلاوي، ليغوص في ما هو مخبأ وغير متداول.
تستند بيوغرافيا العرض على مادة صوتية قوامها حوالى 19 تسجيلاً، بصوت ريم


سينوغرافياً، يقترب العرض من «الواقعية الفنية» وفق ما يؤكد المخرج سليم الأعور، مضيفاً: «عملنا على استحضار أزياء المناضلة الفلسطينية، ومحاولة تجسيد ملامحها من خلال المكياج، ليس ليكون تقمّصاً حرفياً للشخصية، وإنما، استحضاراً لطلة ريم وهيأتها الفلسطينية». حاول المخرج تقريب الصورة، إلى المتفرجين، من خلال تجسيد ملامح الشخصية، وترجمة أفكارها الداخلية، عوض تجسيد الشكل الخارجي. في «يا ليل ما أطولك»، تطالعنا روان حلاوي، كحكواتية، في بعض اللحظات، تخبرنا قصصاً مخبأة، تكسر الجدار الرابع مع الجمهور، بهدف إحياء ذكرى مغنية ريم، التي قدّمت التهاليل والأغنيات التراثية المستقاة من الفولكلور الفلسطيني بأسلوب حداثي، وغنّت قصائد لسميح القاسم، ومحمود درويش، وتوفيق زياد ووالدتها زهيرة صباغ وشعراء آخرين. ولأنّ العرض أشبه بعمل توثيقي، فقد حرصت حلاوي، على الدقة والموضوعية، لبناء نظام الشخصية المسرحية. تم تفريغ التسجيلات الصوتية، ومشاهدة حوارات تلفزيونية للمغنية، والاطلاع على أرشيفها عن كثب. عملت حلاوي على بناء طبقات الشخصية ببنية عميقة ومنطقية.
تأتي مسرحية «يا ليل ما أطولك»، احتفاءً بحياة ريم بنا، وتكريماً لمسيرتها النضالية. «لقد أثرت فيَّ ريم كثيراً، خاصةً أنها شجاعة، ومناضلة، وقوية. كان في داخل ريم بنا مصنع قوة لا ينضب، يمكن أن يمد أي امرأة عربية، بالقوة نفسها» تقول روان حلاوي. آخر ما كتبته ريم على صفحتها الفايسبوكية: «لا تخافوا، هذا الجسد كقميص رثّ، لا يدوم». كانت محقة. غاب الجسد، وظلت الروح، تحثنا، في ليالينا الطويلة، على مجابهة الظلم، والعدوان، والمعاناة، والأوجاع.

* «يا ليل ما أطولك»: س:20:30 مساء اليوم و18، و 19، تموز (يوليو) ــــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـــــ البطاقات متوافرة في جميع فروع مكتبة «أنطوان» وعلى باب المسرح.