أكثر ما يميز مونودراما MAGMA (إخراج عصام بوخالد ــــ تمثيل برناديت حديب) التي تقدَّم عروضها على خشبة مسرح «دوار الشمس»، هو المضمون المركّز والمكثف، الذي يصل إلى المتفرج بكل سلاسة، مشكلاً دعوة إلى رفض سلوك اجتماعي، وسياسي، واقتصادي. قد يكون العرض المسرحي واحداً من الأعمال المسرحية اللبنانية التي من شأنها رفع الذائقة الفنية للجمهور في بيروت، وقد تمهّد لأرشفة الحاضر، ما يسمح لنا بالتمعّن في بكل ما مررنا به على مدار السنوات السابقة. مسرحية ذات كثافة اجتماعية وسياسية، وجودة عالية، ينطلق فيها المخرج من ثيمة النوم والهذيان، ليدخل في عوالمنا الباطنية، ووحشيتنا الداخلية، واشمئزازنا، وكراهيتنا، وعنفواننا، وسخطنا على أنظمة دولنا في عالم الجنوب، وأنظمة الدول التي تدّعي التحضر في عالم الشمال، ويعيدنا إلى أصالة الإنسان وعاطفته.
برناديت حديب في مشهد من MAGMA

تأخذ حبكة MAGMA أو «رواسب» منحى تصاعدياً، أكثر من مرة، حيث تفجّر العقدة بلا أي حل. الهذيان الداخلي، والانهيار الانفعالي، هما سمتا الشخصية التي تمثلها برناديت حديب التي تسترجع شريط يومياتها، في مدينة بيروت، حيث الاكتظاظ السكاني، وضغط تربية طفلها، وآلام الكتف والمفاصل، إضافة إلى عدم قدرتها أو رغبتها لفعل أي شيء. صارت في حالة من الغيبوبة، بعدما كانت في حالة من الجنون اليومي. تصحبنا إلى عالم الأحلام التي تراودها. يشكّل هذا العالم، خطاً درامياً أساسياً، لإثارة الضحك، من جهة، والدخول إلى اللاوعي الجماعي، من جهة أخرى. تقصّ علينا قصة حملها وإنجابها، لتتمظهر الفروقات العرقية والجندرية: هل سيكون صبياً أم بنتاً؟ أبيض أم «أسود»؟ تحاول عدَّ الأغنام في محاولة للنوم وطرد الأرق الليلي. لم نكن أمام نص معقد، ولم يتطلب مغالاة في التحليل، بل كان السرد، والمفردات، والفضاء، والتيمات، التي كرسها العرض، عناصر واضحة وممتعة. لم يكن العرض توعوياً، ولا وعظياً، ولا إرشادياً، بل كان محفزاً فعلياً لفضاء عام تبددت فيه كل أساليب البقاء. على مدار الوقت، كان النص ذا فكاهة عالية. أظهر إتقاناً عالياً في تحويل السرد الفكاهي إلى تشريح للواقع الذي نعيشه. نص يعيد صياغة ذاكرتنا القريبة، وحاضرنا، ما يعيد صوغ الأسئلة حول مستقبلنا.
المعاني والمفاهيم، جسدتها الممثلة برناديت حديب، وأظهرت قدرات تمثيلية عالية، على مستوى الصوت والجسد والأحاسيس. كانت تجهش بصوتها، وتملأ القاعة فيه، تحركت بليونة جسدية عالية، وتشنّج عضلي عندما وجب ذلك، ما جعل المعاني صادقة وأصيلة وعفوية وفكاهية، إلى حيث لا نهاية. ترافق ذلك مع إخراج مبهر على المستوى البصري. الإضاءة البنفسجية والزرقاء، صحبتنا إلى عالم مليء بالسكون والصخب والقلق قي الوقت نفسه. أعاد عصام بوخالد تأطير عوالم الشخصية في مساحة ضيقة، ولكن مكثفة. كان السرير أشبه بكوكب ممزوج بالأحلام، والخوف، والقلق تحرّك في مستويات مختلفة، حتى نكاد نتيقن بأن الرواسب تحته هي المحرّك الفعلي لكل التقلبات.
إتقان عالٍ في تحويل السرد الفكاهي إلى تشريح للواقع الذي نعيشه

يأتي المشهد الأخير، مترافقاً مع إبهار بصري. تعلن برناديت حديب لحظة الفاجعة. تقصّ علينا، بكثير من الألم، المأساة التي حلّت بنا قبل أربع سنوات في منطقة المرفأ. لم نكن نتوقع أن يكون العرض الفكاهي مقدمةً لتراجيديا المدينة. العرض جسد الإنسان الذي نحن عليه اليوم، الإنسان الغاضب، المتألّم، الثائر، والمعذب. المعاناة لم تنتهِ بعد، ولا تزال آثار الانفجارات والحروب على كل عضو في أجسادنا. العرض المسرحي هو شرفة على عالم أحلامنا، هو مساحة للموت البطيء، والهادئ، والهانئ ربما. في نهاية العرض، تذوب الممثلة شيئاً فشيئاً، تنصهر الشخصية بكل معالمها وملامحها الأصيلة، وعنفوانها، وغضبها، وأوجاعها، وتفارقنا إلى عالم آخر. تتركنا في كثير من الأسى، تصبح الخشبة باردةً من دونها، كأنّ المدينة صارت فارغة من سكانها، واستحالت مدينةً للموت، والخسارة، والحزن، نتيجة كل ما حلّ بها على مدى السنوات السابقة.
MAGMA لعصام بوخالد وبرناديت حديب، يكاد يكون من أفضل الأعمال المسرحية اللبنانية، التي من شأنها أن ترسخ بذور مفاهيم جديدة، وأشكالاً مسرحية متطورة في المشهد الثقافي والفني. الحرفية العالية في تصميم وتنفيذ الديكور والأزياء، وحركة الإضاءة، والجمل الموسيقية، والمؤثرات الصوتية، وتطويعها مع المفاهيم التي يطرحها العرض، أوصلت التفسير المطلوب.

* MAGMA: س: 20:30 مساءً حتى الرابع من شباط (فبراير) ـــ مسرح «دوّار الشمس» (الطيونة ــ بيروت) ــــ البطاقات متوافرة في «مكتبة أنطوان». للاستعلام عبر الواتساب: 03/557917