في عرضها الجديد Dust (تراب)، تقدم الكوريغراف والمخرجة اللبنانية ندى كنعو، لوحة استعراضية قوامها الجسد المنهك والمشاعر الصارخة، على أنقاض مدينة مهدمة. العرض الراقص هو محاولة للتشافي من تبعات انفجار الرابع من آب (أغسطس) 2020، وغوص في الألم الجسدي، وانكسار الشعور، وآثار الصدمة. يتمحور Dust حول الكارثة التي يحاول كثيرون نسيانها أو «قمعها» بسبب الألم الهائل الذي سببته. يتبع العرض قصة فردية لامرأة شابة تحاول الشفاء من الألم بمواجهته. في بداية العرض، تتجسد بيروت في عروس، تظهر من خلفها صور لأمجادها في العقود المنصرمة. سرعان ما يلاحق الموت الأسود الذي يأتي على صورة ثلاث راقصات يرتدين فساتين دانتيل سوداء، العروس الهانئة، ليتحول السرد بين الراقصين الأساسيين (دانيل موسى وماريا زغيب) لمواجهة الخنقة، والحيرة، والفاجعة، والألم، وندخل في رحلة طويلة مع الألم.
لا يمكن لأي متفرّج، بعد مشاهدته عرض Dust ألّا يُذهل للوحات الرقص المعاصر- المستقى من حركات الباليه الكلاسيكية، وضخامة الإنتاج من صوت، وإضاءة، وأزياء. لكن العروس التي ترتدي أمتاراً من القماش الأبيض، وتقف في المنتصف الخلفي لخشبة المسرح، جسّدت ــــ ضمن قالب جاهز (كليشيه) ــــــ حلم أي فتاة بالزواج، وعبرها نستنبط أن بيروت، أيام الستينيات، هي المقصد من هذه اللوحة. تتراقص العروس بحركات يدين رقيقتين، ما يجعلها مفرطةً لناحية التعبير، ولم يكن هناك أي حاجة لتضخيم الصورة وجعلها واضحة للعيان، وخصوصاً أنّ هذا المشهد تبعته لحظة تجسيد الفاجعة، عبر اقتحام ثلاث راقصات بلباسهن الأسود، فضاء العرض، ما غيّر في الديناميكية بطريقة درامية للغاية. رغم ذلك، بدا التعبير الجسدي للراقصين بأكملهم (دانيال موسى ومايا خضر وأكسيل رزق وماريا زغيب) على مستوى عال من الحرفية، إذ يتمتّعون بمستويات لياقة عالية، لكن الجمل الحركية لم تترافق مع كثافة في المعنى، ما وضع الكوريغرافيا في خانة الاستهلاك.
على المستوى السينوغرافي، احتلت الألواح الخشبية المستطيلة، حيزاً مهماً في العرض، حتى إنّ الجمل الحركية، رُكّبت وفقاً للمعنى الذي تعطيه للمتفرج، إذ تتحول هذه القطع السينوغرافية ومن تحتها أو فوقها والأجساد، إلى قبر، أو جدار، أو فاصل، أو بيت مهدم، أو زورق، ربما. لكن كان هناك وضوح ومغالاة في تكريس المعنى، مترافقاً مع تكرار لمدة زمنية طويلة أثناء العرض. السينوغرافيا برمتها تكتنف مبالغة في استعمال القماش، والأخشاب، والأزياء، ما أفقد العرض الفعالية المرجوة، وجعل عملية تفكيك العناصر، واضحة وسهلة في ذهن المتفرج. على صعيد متصل، كان العنصر الأهم في Dust، هو الغناء والموسيقى. تجسّدت القوة المحرّكة للأحاسيس والأحلام والعواطف في صوت المؤدي Anou، الذي حمل العرض إلى مستويات مختلفة من الحساسية والشاعرية. جسّد بصوته غرائبيّة المدن، ونعيقها، وأصوات ثكلاها، والجرحى، والمبتورين، وكان فيه شيء من الحب المخبّأ، والأمل الممزوج بالقهر. أعطى المؤدي Anou، مع الموسيقى التي رافقت العرض بأكمله، المشهدية العامة كثافةً تخدم مضمون العرض. عبر صوته، ترافقنا في جولة على الجميزة، والكرنتينا، والمرفأ، وشاهدنا الهدم والدمار، بعدما كانت هذه المناطق وغيرها، تضج بالحياة.
العنصر الأهم في Dust هو الغناء والموسيقى


إذاً رغم حرفيته العالية، يؤخذ على العرض الراقص Dust أنّ المعنى الذي يكرّسه كان سهلاً وواضحاً، ولا يحمل كثيراً من التأويلات. تقدّم الشكل على حساب المضمون الذي كان يجب أن يكون أوسع، تحديداً في طرح انفجار الرابع من آب (أغسطس). مخرجة العرض، وإن كانت نيتها تقديم مشهدية بطريقة مبسّطة وعضوية، إلا أنها أفرطت في التعبير والتجسيد، وبالغت في استعمال السينوغرافيا، وطوّلت مدة اللوحات التعبيرية. بالطبع، لا يمكن لأي متفرج أن يخرج من العرض، إلا وهو محمّل بلحظات انفعالية، لأنّ الطرح مرهق. ويُحسب لندى كنعو أنها لم تمارس أي تطهير في نفوس المتفرجين، بخاصة أنها فتحت آفاقاً للأمل في نهاية المأساة التي حاولت تجسيدها.

* عرض Dust: س:20:30 مساء اليوم وغداً وبعده ـــــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/753010