لا يزال الشاعر والمخرج المسرحي اللبناني يحيى جابر، يحمل اللغة «الطبيعية» الخالية من التنمّق، ويضعها على الخشبة. علاقته مع المجتمع وطيدة، والكتابة عنه مرتبطة بأزمات التاريخ الكبرى. في أعماله يتلاشى الإيهام، ويُكسر الجدار الرابع، وتشكل المونودراما، نيةً للتعبير عن الإنسانية. يتصدر جابر المشهد المسرحي في بيروت، بتقديمه عملين على خشبة «المونو» هما «من كفرشيما للمدفون» (تمثيل ناتالي نعوم)، و«مورفين» (تمثيل: سوسن شوربا)، ينقب فيهما عن السياقات السياسية، والاقتصادية، والطبقية في فضائنا العام. كتابة درامية سلسة وسهلة، وإخراج مقتضب، وأداء تمثيلي يخلو من التكلّف.
ناتالي نعوم من «كفرشيما للمدفون»
لم يعد هناك أي أسرار. التاريخ مكشوف على مصراعيه، والبلد لم يكن بأفضل حال. من «كفرشيما للمدفون» نظرة نقدية لاذعة لتاريخ دموي. ينبش يحيى جابر في تاريخ المسيحية في قلب منطقة الشرق الأوسط، يشرّحها، يفنّدها، ويقدمها بكل فظاظتها على الخشبة: من ملحم بركات، إلى بساتين الشياح، حيث تنحدر الشخصية البطلة كونها «بنت الفلاحين»، إلى خطاب الـ 10452، ولبنان الكبير والصغير، يقدّم العمل مقاربات عن الحب، والحرب، والجنس، عبر مشوار «لورا»، البطلة المونودرامية، مع زوجها «غابي». نرافقهما من «كفرشيما» إلى «المدفون»، وصولاً إلى أحد مطاعم جبيل، للاحتفال بعيد ميلادها، وإطلاق زوجها حزبه المسيحي الجديد «الحزب المسيحي الديموقراطي الفينيقي». لورا التي اكتشفت خيانة زوجها لها، تقرر فضحه أمام الملأ... لا تكمن السردية هنا، بل تستوقفها، أثناء رحلتها إلى جبيل، محطات مفصلية، تكشف خبايا عن الماضي المحرّم. حكاية دماء، وقتل، وتقطيع رؤوس، عند «الكرنتينا»، و«تل الزعتر»، و«نهر الكلب»... بجرأة، يقلّب يحيى جابر الصراعات الكبرى، يذكر جيلاً بحروب الدم، ويُطلع جيلاً جديداً على مأساة لم يعهدها. تأتي الطروحات الحساسة، ضمن كتابة درامية ممتعة، لا يعاني فيها المتفرج للوصول إلى المعنى الأساسي. لم يمارس المخرج علينا أي ضغط، لترتيب التاريخ، فالأحداث بحدّ ذاتها كفيلة بوضعك أمام معاناة، واستنزاف، وعنف لا مثيل له. هذا كله، يأتي بسخرية ممزوجة بالبذاءة، لا الابتذال، كون الجنس حاضراً في طبيعتنا الإنسانية. يبقى أنّ أكثر ما يميّز النص، هو الاستفزاز، الذي يشكّل صلب مسرحية «من كفرشيما للمدفون»، إذ يسمّي الكاتب الأمور بمسمّياتها ولا يُخضعها لأي تجميل أو تنقيح.

ناتالي نعوم في مشهد «من كفرشيما للمدفون» (جو خوري)

يصبّ يحيى جابر في هذه المسرحية، كل الأضواء على الممثلة ناتالي نعوم التي تقدم أداءً ممتعاً بلطافتها المعتادة، وصوتها المألوف إلى الجمهور، وتميّزها بنطق حرف «السين». أمسكت ناتالي نعوم بخيوط اللعب المسرحي الأساسي من حضور، وصوت، ولعب مسرحي. أراد يحيى جابر تصدير الشخصية البطلة كما هي، لتحافظ على عفويتها وإحساسها الصادق. رافق الأداء التمثيلي الناعم، إخراج بسيط وواضح مع ستة أضواء تلعب في خلفية المسرح. الأحمر يشير إلى الحبّ أو الدم، الأزرق يشير إلى الموت أو الحياة، ويبقى الغرض السينوغرافي الأساسي هو الكرسي، الذي ينعى يحيى جابر وناتالي نعوم، عبره، الجمهورية المسيحية، ويلجآن إلى «مار شربل» خشبة الخلاص. من هنا نسأل عن «المدنية» في الخطاب الذي قدمه يحيى جابر، لماذا كان مردّ الحل إلى الدين، في حين تتعالى الأصوات بالعبور إلى دولة مدنية؟ نصل إلى اللحظة الحاسمة في النهاية. يترك لنا المخرج والممثلة أفقاً لاستشراف المستقبل، وسط مآخذ على العرض بأن مدّته الزمنية طويلة، ولعلّه أفضل لو كان أقصر حتى لا يفقد المتفرج المتعة المرجوّة.

سوسن شوربا: التشافي عن طريق البوح
تعدّ مسرحية «مورفين» التجربة التمثيلية الثانية لسوسن شوربا، ويبدو أنها قطعت شوطاً مهماً في الأداء التمثيلي المسرحي، بعد تجربتها الأولى في مسرحية «فولار». تعود سوسن محمّلة بأوجاعها، ومعاناتها، لتمسرح الألم، وتجعل من مرض السرطان فرصةً للبوح عن الحب، والذكريات، والأمل. لمجرد رؤية سوسن على الخشبة، تعلم أنّ فيها شيئاً من الحيوية والطاقة والإصرار، تتنقل بكامل عفويتها وطبيعيتها على الخشبة، ترقص، وتغنّي، وتعزف على البيانو.
في هذه المونودراما، تقدم سوسن شوربا شهادتها حول مرض السرطان، إضافة إلى قصّ حكايات عن خالتها «سهير» التي تتحدث باللهجة الفلسطينية، وتجعلها بطلةً تراجيديةً، عانت من زوجيها السابقين. عبر المونولوجات، يُعيد النص ترتيب بعض الأحداث الكبرى، التي غيّرت الشرق الأوسط، من «سايكس بيكو»، إلى «وعد بلفور»، وصولاً إلى الصراع الفلسطيني. لا يغيب الخطاب «النسوي» الشعبي عن أعمال يحيى جابر، «الرجال زي الصرماية»، وتحديداً الخائنين. يجول عبر سرديات العمة سهير على بعض الأماكن في بيروت، مثل «ملهى البدويست»، و«سوق الروشة» وغيرهما... تقول الممثلة النصّ بصوت لطيف، وحركة جسدية عضوية، مترافقين مع إحساس مؤلم، وتجربة حيّة، واستهزاء بالمرض، ودوس على المشاعر، وبوح شفاف.
كتابة درامية سلسة وسهلة، وإخراج مقتضب، وأداء تمثيلي يخلو من التكلّف


كل هذه الطروحات، تُقدم إخراجياً في مناخ يوحي بالسكون والهدوء. يخوض جابر تجربة مسرحية مع سوسن شوربا، لكنه أجاد صنع الحالة وصقلها وتبنيها والعمل عليها. كان يتوق الجمهور إلى رؤية رقص، وغناء، وعزف سوسن، أكثر مما تم بثه، إذ كان ممكناً أن تأخذ هذه الأفعال مساحةً أكبر أثناء العرض. رغم متانة الطرح، وأهميته، وجمالية المشهدية برمتها، كان ممكناً أيضاً، أن تخوض البطلة متعة التفريغ، ضمن شكل جمالي آخر، كمسرح «التجربة الشخصية» بحيث لا نستطيع تمييز الألم الممثَل على الخشبة، من الألم الحقيقي. تنتهي المسرحية، بكثير من العزيمة، والإصرار، والأمل، الذي تبثّه فينا سوسن شوربا، رغم كل الآلام التي تحيط بجسدها وروحها، نتيجة خبث المرض.

* «من كفرشيما للمدفون» (الخميس والسبت) و«مورفين» (الجمعة والأحد) حتى 25 شباط (فبراير)، الساعة الثامنة والنصف مساءً، مسرح «المونو»، بيروت. الحجز في جميع فروع مكتبة «أنطوان»، و«أنطوان أونلاين». للحجز والاستعلام: 70/912711