يعيد العرض الأدائي الانغماسي «نازار» (إخراج لارا قبيسي. إشراف فني: حنان الحاج علي)، تشكيل لحظة أصيلة ومكثفة عن «الرقية الشرعية» وما تكتنفه من طقوس وموروثات وتواريخ شخصية وجماعية. يجمع العرض طرفي الطقس، الراقي (لارا قبيسي)، والمشارك (المرقي) الذي يرى شخصية ثلاثية الأبعاد تلمسه، تتكلم معه، وتجول به في بيت أعادت رسم مساحته، افتراضياً، ما يسمح بإعادة اكتشاف الذكريات والتعويذات بشكل حسّي وتفاعلي. قدم العرض قبل أيام في «متحف سرسق» لجمهور محدد، على أن يتم استكمال تقديمه لاحقاً في بيروت، ليستقطب أكبر عدد من الجمهور، الذي سيكون على موعد مع تجربة تفاعلية، تحمّله بالأسئلة حول الطقس وموقعه، اليوم، في الحيّز العام. يجلس المتفرج، وحيداً على كرسي، ويضع نظارة ثلاثية الأبعاد على عينيه. يرى فضاءات أعادت لارا قبيسي ترميمها ورسمها بفانتازيا عالية. الحرش، البيت، كوكب الأرض، الأجرام السماوية، الأجساد، العيون... يضع على رأسه سماعة تبث نصوصاً مسجلة مسبقاً، وموسيقى راب (شاب جديد، والراس)، ومداخلة لتجربة امرأة (سلام) مع سورة «السدّ» من القرآن التي تبعد الشرّ والأعين وفقاً لما تقول. كل ذلك يأتي مصحوباً بتعويذات، تتلوها المؤدية بشكل مباشر، «حوطتك من عين إمك، من عين بيك، من عين الجار، حد من النار، حوطتك من عين بتقشعك وبتشوفك، وما بتقول ألف الصلاة على النبي».
تُخلق الفضاءات من جديد أمام أعين المشارك، وتختلط في الجو العام، روائح البخور، واللمسات الآمنة، والطعم. إنه أشبه بزمان ومكان سوريالي مكثف بصرياً وسمعياً وحسياً. تتوالى الإحداثيات، وتُنظم العلامات والمواد، ضمن تراتبية الحواس الخمس، التي لا تنفك تهدأ أمام المشارك ليكون محطّ اهتمام العرض. تُخلق عوالم من السحر، والألوان، والمسطحات، يتحول فيها اللامرئي، إلى طبقة مرئية، انطلاقاً من الموروث في بيئة مكثفة (جنوب لبنان)، لتصل إلى بنية عميقة وذاكرة جماعية أكبر.
يخرج المشارك محملاً بالأسئلة عن الطقس الاجتماعي الذي تُعيد لارا قبيسي ومعها حنان الحاج علي وسرمد لويس وآخرون، موضعته في سياق جديد. لعلّه يكون مادة للتأمل عن علاقتنا بالموروث، ما يفتح أسئلة (تأتي في خلفية العرض) حول «العين» التي صارت مرتبطة بالنظام العام، والسلطة، و«عيون الذل». يبلور العرض مفاهيم عديدة عن علاقتنا بالجغرافيا، والسياسة، وأشكال التواصل الحديثة.
تجربة ممتعة وعضوية قد تفتح الباب على أشكال مسرحية وأدائية جديدة


«نازار» رحلة سلسة ضمن واقع افتراضي، يصيب اللامرئي، ويكون النظر بالعين ـــ التي هي أنواع مختلفة «عين الحسد، عين المراقبة، وعين الذل» ـــ مدخلاً لإعادة «موقعة» التراث في سياقنا الحديث. عبر العودة إلى الطقس وبسطه أمام المتفرج/ المشارك، والتفاعل مع المواد، يُعاد إنتاج المعنى. انطلاقاً من ذلك، يحتّم الشكل الفني الحديث والمتطور في هذا العرض، الذي تشكّل التجربة الانغماسية قوامه، السؤال عن الموروث والعادات الاجتماعية والدينية، والعودة إليها ضمن معطيات المستقبل. يعيد المشارك الربط بين واقعين وزمنين متناقضين، ليسأل عن دوافع الطقوس، والحاجة إلى تحسّسها من جديد، في خضم كل التحولات التي تشهدها البشرية. «نازار» تجربة ممتعة، وعضوية، قد تفتح الباب على أشكال مسرحية وأدائية جديدة في بيروت ضمن رؤى حداثية لما قد تكون عليه أشكال العروض الأدائية لاحقاً ومحورها التراث المادي واللامادي، والذاكرة الجماعية، والهوية.