منذ بداية آذار (مارس) حتى اليوم، يتواصل عرض مشروع «4 لريمون» على خشبة «مسرح مونو» وهو برمجة تُعيد إحياء نصوص ريمون جبارة (1935 ـــ 2015)، أحد أبرز مؤسّسي المسرح اللبناني. يتوالى أربعة مخرجين، على تقديم النصوص وإتاحتها للجيل الصاعد، ليكون المشروع أشبه باحتفالية تجمع «الملهاة» مع «المأساة» التي سبّبتها الحرب الأهلية اللبنانية، وما تبعها من خراب، ودمار، وفقدان لمعالم الإنسانية. المسرحيات الأربع تأتي ضمن خيارات إخراجية متنوّعة، مع الحفاظ على النصوص الأصلية، لعلَّ جهود الفاعلين في هذا المشروع تنسحب على طباعة النصوص، في المستقبل القريب، وتؤرشف أعمال ريمون جبارة، كونه ثائراً، ومتمرداً، وشاعراً، رسم مناخات مسرحية لا تزال ملهمة حتى يومنا هذا.
غابرييل يمين: السلطة مصدر الذلّ
افتُتحت العروض مع «تحت رعاية زكّور» للمخرج والممثل اللبناني غابرييل يمّين، الذي يعد أحد أبرز تلامذة جبارة في المسرح. حين قُدّم العمل للمرة الأولى عام 1972، أي قبل الحرب الأهلية اللبنانية، كان يمّين يشاهد البروفات في ذلك الوقت، وينهل من طريقة تحويل ريمون جبارة النص على الخشبة، وهي أشبه بمهارة دراماتورجيّة، كان ريمون يرسّخ معالمها. يقول لنا «حافظت على النص كما هو، وعلى بعض القفشات فيه»، مضيفاً أنّ المعلّم الراحل «كان يرفض بشدّة ما يشاع حول أعماله بأنها نخبويّة. بل، عل العكس، كانت شعبويّة، إلى أقصى حد، وبسيطة وعفوية». تطرح المسرحية ثيمة الذلّ الذي يخضع له الإنسان على يد السلطة الدينية والسياسية والعسكرية... المفارقة في هذا العمل، كما هي الحال مع غالبية النصوص، أنها لا تزال راهنة لناحية المضمون، على وجه الخصوص. «يخيّل إليَّ أن ريمون قد كتب النص لتوّه... لذلك من جملة الأهداف التي عمل عليها مشروع «4 لريمون» هي إتاحة عمل مسرحي، لا يزال حاضراً فينا، ما يزيد من التحليل والتأمل بها من جديد. يُحسب ليمين، أنّه جمع في «تحت رعاية زكور» ثلاثة أجيال مختلفة على الخشبة، ما يحقق التلاقح بين الرؤى، والطاقات، والأحلام، والخيبات، للممثلين على حد سواء.

«Pique-Nique عخطوط التماس» من إخراج جوليا قصّار (جو الخوري)


جوليا قصّار: وقفة تأملية في أهوال الحرب
عملت جوليا قصار مع ريمون جبارة في أربع مسرحيات هي: «صانع الأحلام»، و«من قطف زهرة الخريف»، و«Pique-Nique عخطوط التماس»، و«مقتل إن وأخواتها» التي كانت آخر عمل قدمه ريمون جبارة في حياته. إعادة إحياء مسرحياته، وتعرّف الجيل الصاعد إليها، وتذكير الأجيال التي عاصرته بها، كانت هدفاً أساسياً بالنسبة إلى قصّار التي تقول لنا: «قُدّمت «Pique-Nique عخطوط التماس» للمرة الأولى عام 1999، أي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية، وكان ريمون جبارة قد أعاد اقتباسها وتأويلها وكتابتها عن الكاتب المسرحي الإسباني فرناندو أرابال، وحوّلها إلى بيئته اللبنانية، وأضاف إليها خصوصية عالية في بلد أنهكته الحرب... المسرحية هي وقفته التأملية أمام همجية الحرب ووحشيتها». تقول قصّار إن الإنسان في نصوص ريمون جبارة مسحوق دوماً من سلطات متعددة، وما حياته إلا مشوار للعذابات. تبدأ قصة المسرحية، بعدما تزور عائلة ابنها وتقيم «بيكنيك»، ويقع بين أيديهم أسير من جهة معادية لهم، ليكتشفوا أنهم يعانون الألم والقهر ويملكون الأحلام ذاتها. رغم كل السوداوية، يستمرّ أبطال قصّار في محاربة طواحين الهواء طوقاً إلى الحرية، التي هي «وهم» بحسب الكاتب ريمون جبارة.

أنطوان الأشقر: يعيد تقديم أوجاع «زرادشت»
عام 1996، جسّد أنطوان الأشقر الدور الأساسي في زرادشت صار كلباً» (1977) واليوم يعيد تمثيل الدور نفسه وإخراجه بعد مرور كل هذه السنوات. تكمن قوة هذه المسرحية بأنها تطغى على سياقنا الحالي، فهي ساخرة، وكاريكاتورية، ولاذعة رسّخ ريمون جبارة عبرها موقفه الرافض للحرب الأهلية، وما أفرزته من مليشيات. كانت تصب في البحث عن ثيمة «ذل الإنسان».
احتفالية تجمع «الملهاة» بـ«المأساة» التي سبّبتها الحرب الأهلية اللبنانية

تتألّف المسرحية في الأصل من أربعة فصول، رأى أنطوان الأشقر أن يقدم آخر ثلاثة منها، كون اللوحة الأولى «لا تتماشى مع اليوم الذي نحن فيه». كل لوحة هي بمثابة مسرحية قصيرة لكل منها جو ومناخ معيّن للإنسان. تخرج المسرحية من الإطار اللبناني، لتحكي عن موضوعات عالمية تخصّ الإنسان أينما كان، في الغرب كما في الشرق، حيث المآسي مشتركة. يقول أنطوان الأشقر: «حاولت أن أكون أميناً لناحية الشكل والمضمون والمسرحيين. تعرفت إلى أوجاع وهموم ريمون عام 1992، وهذا ما وضعني أمام مسؤولية كبيرة، لأعيد ترتيب تحليلاته وأفكاره وتأويلاته، التي تبدو ظاهرياً بسيطة، لكنها معمّقة، وتحتاج إلى تفكير كثير».

رفعت طربيه: مآسي الإنسان مستمرة
اختار المخرج والممثل رفعت طربيه نصّ «قندلفت يصعد إلى السماء» لأنه لم يكن معروفاً بشكل كبير. قُدِّمت المسرحية منذ نحو 40 عاماً، في مسرح «طبرجا» وتعدّ من أذكى اقتباسات الكاتب المسرحي الإسباني، فرناندو أرابال، «احتفال بمقتل زنجي». أعاد ريمون جبارة تأويل نصها، ليقدّم رفعت طربيه اليوم قراءة إخراجية جديدة، إذ يرى أنّ القيمة الفنية لجبارة، تكمن في تحويل النصوص وإعادة بلورتها إخراجياً، وخصوصاً أنّها تتفاعل مع الزمن. يترافق هذا المضمون المسرحي مع «عبثية، لا يوافق على تسميتها كثيرون، في وصف أعمال ريمون جبارة، وابتسامة سوداء»، مضيفاً: «في الوقت الذي قدمت فيه المسرحية للمرة الأولى، كانت بيروت تتفجر بالحريات، وكان ريمون مواكباً لها، حيث كانت تقدم مجمل النصوص بالفصحى. أتى ريمون وقلب هذا العرف المسرحي، وثبتت معالم هذا التغيير، ما شكّل ثورة في المسرح العربي واللبناني، وحجر أساس للرعيل الأول». المسرحية ذات نقد لاذع أضاف عليها طربيه نكهةً مطعّمة بالتساؤلات حول مآسي الإنسان.

■ «Pique-Nique عخطوط التماس»: حتى 17 آذار (مارس)
■ «زرادشت صار كلباً»: بدءاً من 20 حتى 27 آذار
■ «قندلفت يصعد إلى السماء»: بدءاً من (30 آذار حتى 7 نيسان (أبريل ــ س:20:30 مساء الثامنة ـــ «مسرح مونو» (الأشرفية ــ بيروت). للاستعلام: 70/626200