رغم مرحلة الركود التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي، وسّعت الصين هامش «نفوذها الاقتصادي» خلال الآونة الأخيرة من خلال محورين: استثمارات في شركات البلدان الصناعيّة، وتمتين الصلة «الإنسانيّة ـــــ الطاقويّة» مع أفريقيا. فثالث أكبر اقتصاد في العالم يأبى إلّا أنّ يَستحوِذ ويرفض عروضاً سخيّة للسيطرة على شركاته مثل عرض الـ2.4 مليار دولار من «Coca Cola»
حسن شقراني
بعد مفاوضات شاقّة، لم تتمّ أكبر عمليّة استحواذ على شركة صينيّة في تاريخ البلد الشيوعيّة. فالمصنّع الأكبر للمشروبات في العالم، الأميركي «Coca cola»، لم ينجح في إغراء المسؤولين في بكّين بعرض قيمته 2.4 مليار دولار للاستيلاء على شركة العصير «Huiyuan Juice». ربّما لو كان العرض أكبر لكانت قد تمّت الصفقة، ولكن حجّة الرفض هي أنّ الصفقة لو تمّت لكانت قد أضرّت كثيراً بقواعد المنافسة في الاقتصاد.
فشركة العصير الصينيّة تملك حصّة تزيد على 10 في المئة من سوق عصير الفواكه والخضر في الصين، الذي نما بنسبة 15 في المئة خلال العام الماضي إلى ملياري دولار، وفقاً لأرقام «Thomson Reuters». وحصّة «Coke» هي 9.7 في المئة من سوق العصائر في الصين. وبالتالي فإنّ قطاعاً حيوياً كان سيُمسّ «سيادياً» في ثالث أكبر اقتصاد في العالم.
هذا الهاجس السيادي على الصعيد الاقتصادي موجود لدى جميع زعماء العالم المتقدّم تحديداً. وتنشئ عواصم العولمة الرئيسيّة صناديق خاصّة لدعم الشركات السياديّة خوفاً من الرساميل الغربيّة. وهو هاجس عبّر عنه بالطريقة الأوضح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، في قلب موجة الخوف من الصناديق السياديّة.
فأكثر الأوقات ملائمة لإجراء عمليّات استحواذ (شراء الشركات) هو وقت الأزمات. هذا ما تُجمع عليه النظريّة الاقتصاديّة المبسّطة والمبادئ الماليّة. ففي مراحل شحّ السيولة وتراجع الطلب والركود عموماً، تلجأ الشركات المتعثّرة إلى مؤسّسات كبرى لديها ما يكفي من النفوذ للاستثمار فيها وإبقاء القليل من المال جانباً لتطوير ميزانيّة أقسام البحوث والتطوير (R&D) على سبيل المثال.
ولكن إذا كانت الصين ترفض الاستحواذ على أراضيها فهي تمارس العكس في العالم كلّه.
ففي بداية الشهر الجاري انطلقت بعثة صينيّة رفيعة المستوى، وفقاً لوكالة الأنباء الصينيّة، «شينخوا»، في رحلة «تسوّق» في أوروبا، الهدف منها شراء أو المشاركة في الشركات المتعثّرة أو الواقفة على حافة الإفلاس في القارة العجوز. وبحسب وزير التجارة، شين ديمينغ، الذي ترأس الحملة، «سنبحث الفرض للمشاركة الماليّة في شركات أوروبيّة».
واللافت في هذه الزيارة هو أنّها أتت مباشرة بعد زيارة مماثلة جرت في الشهر السابق، أبرمت خلالها بكين عقوداً بقمية 13 مليار دولار في أوروبا.
والمُلاحظ أيضاً هو أنّ حملة الاستحواذ الصيني لم تركّز على أوروبا فقط. فخلال الشهر الماضي اشترت «الأموال السياديّة» الصينيّة أصولاً مهمّة في إيران والبرازيل وروسيا وفنزويلا وأوستراليا وأفريقيا، أي في جميع القارّات. ووفقاً لما تنقله صحيفة «Washington Post» فإنّ شركة التعدين الصينيّة «Chinalco» ضاعفت حصّتها في ثاني أكبر شركة تعدين في العالم، الأوستراليّة «Rio Tinto»، عبر صفقة بـ19.5 مليار دولار.
هذه الموجة من الشراء العالمي تجري رغم التباطؤ في حركة الرساميل حول العالم بسبب الأزمة الاقتصاديّة التي تعدّ الأسوأ منذ الكساد العظيم في ثلاثينيّات القرن الماضي. وتأتي بعدما وصل حجم صفقات الاندماج والاستحواذ التي أبرمتها الشركات الصينيّة في العالم إلى مستوى قياسي عام 2008 بلغ 52.1 مليار دولار. وخلال الشهرين الأوّلين من العام الجاري فقط بلغت قيمة تلك الصفقات 16.3 مليار دولار!
والمثير في تطوّر عمليّات الاستثمار الصينيّة في الشركات الأجنبيّة هو أنّه يجري بالتوازي مع قيام بكين بتمتين قدمها في أفريقيا: قارّة الموارد والثروات. ففي منتصف شباط الماضي زار الرئيس هيو جينتاو القارّة السوداء في رحلة لضمان المصالح النفطيّة والمعدنيّة من جهة، وتثبيت الصين شريكاً تجارياً واستثمارياً من الدرجة الأولى من جهة أخرى.
فخلال العام الماضي، بلغ حجم التبادل التجاري بين بلدان أفريقيا والصين إلى 107 مليارات دولار، بعد نموّ بلغ معدّله 30 في المئة خلال العقد الماضي. والصين شدّدت من خلال الزيارة على التزامها القارّة الفقيرة من خلال أموال المساعدات، التي تصل بحسب بعض التحليلات إلى 800 مليون دولار سنوياً، وهي قليلة جداً مقارنةً بالمساعدات الأميركيّة (أكثر بـ8 أضعاف تقريباً) غير أنّ أفقها متين، وخصوصاً في ظلّ وفرة الأموال السياديّة.
إذاً فالاستراتيجيّة الصينيّة على صعيد توسيع النفوذ الاقتصادي تسير في محاور عديدة بثبات، وتكسب زخماً في وقت الأزمات، حين يكون العالم الصناعي نائماً أو غارقاً في الديون، ولا يكون هناك مجال لـ«اللعب» حتى للعمالقة أمثال «Coca Cola».


تعطّش للاستحواذ

أعلن وزير التجارة الصيني، شين ديمينغ، في بداية الأسبوع الجاري أنّه ينوي إرسال بعثات استثماريّة إضافيّة إلى الخارج خلال العام الجاري، قد تشمل الولايات المتّحدة واليابان. وبحسب توقّعات المراقبين فإنّ تلك البعثات ستركّز على شركات صناعة السيّارات. وفي هذا السياق يقول رئيس إدارة التطوير الصناعي في البلد الشيوعي، شين بين، إنّ صفقات ضخمة قد تُبرم في هذا القطاع. وقال إنّ صناعة السيّارات تواجه صعوبات كبيرة في تأمين السيولة، وفي الوقت نفسه فإنّ الشركات الصينيّة متعطّشة للتكنولوجيا والموهبة وشبكات التسويق.