من غير المحتمل أن يناقش زعماء مجموعة الدول العشرين الكبرى في قمّتهم المقبلة وضع الدولار كعملة احتياط عالميّة». هذا ما شدّد عليه مسؤول ياباني في حديث لوكالة «رويترز» أمس، وذلك بعدما رفعت بكين وموسكو من الشكوك في المرتبة المستقبليّة للعملة الأميركيّة. ولكن ماذا عن العملة الخضراء تاريخياً وما هي آفاقها المرتقبة؟
نيويورك ــ نزار عبود
تربّع الدولار طويلاً على عرش النظام النقدي العالمي. لكن منذ بداية الأزمة المالية الراهنة تتعالى الأصوات من الصين وروسيا إلى دول العالم الثالث مطالبة بقيام عملة معيارية جديدة تحل محل العملة الخضراء التي لم يعد يُنظر إليها كملاذ نقدي مأمون.
الدولار الذي ولد في عام 1786 حلّق عالياً إلى درجة أنه حل محل الذهب نظراً للإمكانات الاقتصادية الخارقة التي تمتع بها الاقتصاد الأميركي على مدى أكثر من قرن. إلا أنه مع تراجع مركز الولايات المتحدة الاقتصادي من الصعب تصور الاستمرار في الحفاظ على مركز الدولار الذي تكاد مطابعه لا تتوقف عن العمل ليل نهار.
وفي دراسة لتطوّر الدولار الذي بدأ من واد في بوهيميا الألمانيّة، تُلحظ رحلة لافتة. فقصّة العملة الخضراء تعود إلى ما قبل استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا. حيث سمح ما كان يعرف بكونغرس القارة بإصدار قطع نقدية ومعدنية، وباستخدم اسم الدولار من اللغة الإسبانية الذي كان يعني 8 ريالات إسبانية.
ورغم اقتراح أنظمة نقدية عديدة لاستخدامها في الجمهورية الأولى، قُبل الدولار في الكونغرس اسماً في 8 آب 1786. وعلى أثر إقرار الدستور الأميركي، وجّهت الحكومة اهتمامها إلى الشؤون النقدية في أوائل التسعينيات من القرن الثامن عشر تحت قيادة وزير الخزانة آنذاك، الكسندر هاملتون. وصدر عن الكونغرس في عام 1792 قانون سكّ العملة الذي جعل الدولار عملة أساس.
خلال الحرب الأهلية الأميركية صدر قانون النظام المصرفي القومي في عام 1863 الذي فرض ضرائب على عائدات سندات الحكومة وعملتها إلى حدّ القضاء عليها نهائياً. عندها أصبح الدولار العملة الوحيدة للولايات المتحدة.
غير أنه في عام 1878 صدر قانون «بلاند ـــ أليسون» الذي أتاح قدراً أكبر من الحرية في سكّ القطع الفضية. وأدى القانون إلى شراء الحكومة ما قيمته بين مليونين و4 ملايين دولار شهرياً من سبائك الفضة بأسعار السوق لاستخدامها في سكّ النقود، وكانت بذلك تؤمّن دعماً رسمياً لإنتاج مناجم الفضة نزولاً عند رغبة أصحاب المناجم ذوي النفوذ السياسيّ القويّّ في الدولة. إجراء اصطدم بنقمة شعبيّة وصناعية بعد اكتشاف مناجم فضة ضخمة في الولايات الغربية عند أواخر القرن التاسع عشر. حيث أدّى تدفق المعدن الأبيض إلى الأسواق إلى تدهور قيمة الفضة.
وساد خلاف داخل البلاد. المزارعون أرادو إعادة قاعدة المعدنين لأن مصالحهم تقضي ببقاء قيمة الدولار مرتفعة لكي يتسنى لهم سداد ديونهم بيسر، فيما أراد أصحاب المصارف في الشرق وأصحاب المصالح التجارية المحافظة على ما كانوا يصفونه بـ«النقد السليم» والتحوّل نحو قاعدة الذهب.
لكن رغم الجدل الذي صاحب الأزمة، تلاشى تأثير الفضة مع حلول القرن العشرين عندما جرى تبني القاعدة الذهبية رسمياً. واستمر العمل فيها حتى عام 1971. ومنذ ذلك الحين والدولار، بحسناته وسيئاته تربّع على عرش النظام النقدي العالمي. نظام وضعت ركائزه في نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال مؤتمر عقد في بريتون وودز، بريطانيا.
وتمخّض عن ذلك المؤتمر إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واعتماد قاعدة الذهب المعيارية في تقويم العملات، ومن ضمنها الدولار المرتبط آنذاك بها.
واستفادت الولايات المتحدة كثيراً من كون الدولار عملة معيارية دولية، ولا سيما بعد عام 1971. الفائدة الأولى أنه جرى شراء الذهب من الدول بسعر 35 دولاراً للأونصة ليصبح بعدها بعام فقط بسعر 350 دولاراً. والفائدة الثانية أن العملة الأميركيّة لم تخضع للقواعد التي تفرض على الدول حصر عجز الموزانة ضمن نطاق محدد. فيحقّ للولايات المتحدة ركوب عجز يساوي أضعافاً عديدة من اقتصادها الإجمالي دون التعرّض لعقوبات من أحد. والسبب يعود إلى أن الدول الأخرى تحمل الديون الأميركية بعدة تريليونات، وأيّ تدهور في قيمة الدولار يرتد عليها. ثم إن أي عزوف عن قبول الدولار يعني فقدان فرصة البيع في سوق عملاقة بشكل ثلث الأسواق العالمية.
ولكن الحفاظ على الدولار كعملة أولى لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فالدول تشعر بأن الأميركي ينفق على حسابها ويستخدمها رهينة الودائع الدولارية التي تحتفظ بها. وهذا ما جعل رئيس وزراء الصين يرفع الصوت عالياً أخيراً سائلاً الأميركيين عن مصير استثمارات بلاده في السندات الحكوميّة الأميركيّة. وجعل حاكم بنك الصين المركزي زو جاوتسيان يطالب باعتماد عملة جديدة بديلة تحظى باحترام الدول لقواعدها.


المدى الطويل

تنقل وكالة «رويترز» عن مسؤول حكومي ياباني لم تسمّه قوله إنّ قمّة مجموعة العشرين المرتقبة في لندن في 2 نيسان المقبل ستركّز على إيجاد طرق لتحفيز الطلب العالمي، وبلورة إصلاحات للنظام المالي العالمي، والاتفاق على إعادة هيكلة أعمال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومواجهة الحمائيّة التجاريّة. ولكن «لا أحد في هذه اللحظة يبحث حاجة إيجاد بديل عن الدولار بصفته عملة أساسيّة. وفي المدى الطويل يبرز النقاش بشأن ضرورة تغيير النظام النقدي العالمي الذي يعد الدولار محوره، ولكن لا أعتقد أنّ مثل هذا النقاش سيدور في القمّة».