مسيرة النعوش من الحمرا إلى السفارة المصريّةقاسم س. قاسم
عبد الله محمد عبد العزيز. مصري الجنسية. المكان السفارة المصرية في منطقة بئر حسن. جموع المشيعين تحيط بالمكان وهي تحمل نعوشاً رمزية لشهداء غزة. من بين الجموع يخرج رجل. ملامحه لا تميزه عن أحد. بيده يرفع «أعز ما يملك» في الغربة، «باسبوره» المصري، يخرج ولّاعته وبيد ترتجف، يحرقه. يتصاعد اللهيب بين يديه، ودموعه المنهمرة لا تطفئ ناراً: إن في قلبه أو بين يديه. يرتفع عبد العزيز على الأكتاف من حيث لا يدري، ولا يزال الباسبور بين يديه متّقداً كجمرة. جملة واحدة يقولها: «أنا فلاح مصري، هذا الرئيس لا يشرّفني. هاتولي عبد الناصر». تلتمع فلاشات الكاميرات، يهجم الصحافيون على الرجل مستصرحين إياه. «لا أريد العودة» يقول لنا بصوت متهدّج حين نسأله عن «خط الرجعة». يقترب مدني ويسألنا عن اسمه معرّفاً عن نفسه: أنا من فرع المعلومات ما اسم الرجل الذي حرق باسبوره؟! تحاول أن تُفهم الرجل أنه ليس «زميلاً» وبالتالي لن نعطيه اسم الرجل. فيقول: بدبّر حالي. يتنبّه الزملاء وبعض المتظاهرين، فيقومون بحركة ما لتهريب الرجل بين الجموع.
تلك كانت لحظة الذروة في مسيرة التوابيت التي انطلقت من مسرح السارولا في منطقة الحمرا عند الثانية والنصف من بعد ظهر أمس. استطاع عبد العزيز أن يسرق لدقائق الأضواء من المسيرة التي دعت إليها المنظمات والهيئات اليسارية اللبنانية والفلسطينية. وكانت المسيرة قد جابت بخشوع شوارع بيروت على صوت محمود درويش في مقطع من قصيدته التي قالها في الملعب البلدي ببيروت عام 2002. ينساب صوته كالنبوءة: «ونرى إلى قلبنا الجماعي فلسطين وهي تخوض بلحمها ودمها الفصل الدموي الأخير من معركة الحرية والاستقلال (...) الآن يحمل كل عربي قلباً فلسطينياً، اليوم كلنا فلسطينيون من غير سوء (...) لقد عادت فلسطين إلى مكانتها الصحيحة عندما عادت إلى مكانها الصحيح. فالشعب الفلسطيني يقاوم على أرضه، الطريق إلى فلسطين لا تمر إلا من فلسطين».
سار المتظاهرون بهدوء حاملين توابيت أطفال غزة ليمروا في شوارع بيروت. لم يكونوا من جنسية واحدة. في الأمام سارت كويفا باترلي الاسكتلندية الأصل مبتسمةً. تقول في نفسك: كيف تملك الوقت لتكون في كل مكان؟ فالمرأة عادت للتو من بحر غزة في زورق الكرامة الذي منعه الإسرائيليون من الرسو في ميناء المدينة المحاصرة. خلف التوابيت سارت آنّا تومشك البولندية متلفّعة بالكوفية. وفي مقدمة التظاهرة، كان المحتجون المقعدون على عكازاتهم أو يدفعون كراسيهم المدولبة.
وعلى باب السفارة كانت القوى الأمنية تنتظر. الوحيدون الذين سبقوا المتظاهرين كانوا من فرع المعلومات، فلم يسلم أحد من كاميراتهم. لكن عبد جوني أبدى انزعاجه لضابط اعتبر أنه المسؤول عنهم. «صورنا بدكم تبعتوهم للأمريكان؟»، فيردّ عليه الضابط باستهزاء «لا هيدول ملكنا». نقاشٌ لم يقطعه سوى وصول التوابيت السوداء التي بدأت تلوح أمام جسر الكولا.
انتظرت السفارة المصرية المتظاهرين في المكان نفسه الذي شهد مواجهات بين المعارضة والموالاة في محيط الجامعة العربية. لكن دم غزة وفلسطين جمع اليوم الطرفين حول القضية المركزية. شبان من منطقة طريق الجديدة اشتركوا مع شبان مخيمات صبرا وشاتيلا في المسيرة. أبو عمار كان هناك أيضاً ليستقبل الجنازة المفترضة. حُملت صورته لتبدو كأنه ينظر إلى الجثث المسجّاة أمامه. في حضرة الأموات وضعت النعوش بخشوع كأن من بداخلها بانتظار أن يوارى في الثرى.
هناك على باب السفارة نال حسني مبارك حصة الأسد من بيروت، فهُتف له «الشعب المصري عامل إيه، حسني مبارك CIA».
هناك على باب السفارة، وضعت الأسلاك الشائكة لتمنع المتظاهرين من الوصول. لكن أيدي معتصمين آخرين كانت قد علّقت عليها أحذية ضلّت طريقها إلى بوش. هناك وقفت تومشك البولندية تتمنّى على الجماهير العربية «التحرك لأنه حان الوقت لينتهي الصراع الذي دام ستين عاماً». لم تستطع تومشك أن تعبّر عن شعورها. تغرورق عيناها ببعض الدموع وتقول «من الصعب أن أشرح طبيعة شعوري فمن الأبلغ أن نصمت». لكنّ حسان جمعة الذي يعاني شلل الأطفال، ورغم «مشوار» المسيرة الطويل يختار أن يقول لمصر «أنت معروفة بأنك أم الدنيا، فهل ترى الأم أبناءها يموتون في غزة وهي ساكتة؟». يقاطعه أحمد معروف من مخيم مار الياس ليقول «إم الدنيا، لكن حاكمها نذل وتافه»، ليكمل بغضب «إن شاء الله رح نفوز متل ما صار بلبنان».
لحظات، وينفضّ الجميع. هناك على باب السفارة، ترك المتظاهرون النعوش، وصوت أم كلثوم الذي لا يمكن أن يغيب لا يزال يتناهى من مكبّرات الصوت منشداً: أصبح عندي الآن بندقية.