حوار القنابل والخراطيم ينتقل إلى «الاميركية» بعد «المصرية»ديما شريف
«رصّوا الصفوف» يصرخ أحد المعتصمين، فيتابع الرفاق من ورائه النشيد، ويندفعون مجدداً نحو السياج الشائك ليتلقّوا كمية إضافية من المياه، من الآلية الجديدة التي «أهدتها» أميركا أخيراً إلى قوى الأمن الداخلي، ودفعة أخرى من القنابل المسيلة للدموع التي كان يطلقها مجنّد باتجاه المتظاهرين مباشرة، لا فوقهم، ما أدى إلى سقوط تسعة جرحى وحالات إغماء عدة. استمر هذا الوضع مع ما رافقه من كرّ وفرّ لأكثر من ساعة أمام السفارة الأميركية في عوكر، ظهر أمس، خلال الاعتصام الذي نظّمه «لقاء الهيئات والمنظمات الشبابية اليسارية اللبنانية والفلسطينية».
بدا اليوم مبشّراً منذ بدايته. فطقس السبت الماطر تحول إلى شمس دافئة. تجمّع ناشطو الحزب الشيوعي اللبناني واتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني ورفاقهم من المنظمات اليسارية الأخرى منذ الصباح الباكر في ساحة رياض الصلح. في الحادية عشرة انطلقت الباصات إلى عوكر. لم يكد الموكب يصل إلى كورنيش النهر حتى أوقفه حاجز للجيش وأخضعه للتفتيش. أما السبب؟ فتخوّف القوى الأمنية، كما أسرّ لنا بعض العناصر، من أن يحمل المتظاهرون حجارة إلى عوكر (!). هكذا، صعد مجنّد بكامل عتاده الحربي الذي يلزمه في المعارك إلى كل باص على حدة.
في انتظار دورهم، بدأ ركاب أحد الباصات بالتنكيت: «أحلى شي يطلع في حدا معو حزام ناسف»، تقول إحدى الفتيات، فيما تضحك أخرى قائلة «إن شاء الله ما يلقطوا المولوتوف يللي معنا». يصعد مجنّد إلى الباص ويحاول بجهد الوصول إلى مؤخرته. لكنّ الممر الذي يفصل المقاعد لا يتسع له وهو يرتدي تلك العدّة الحربية، فما كان منه إلا أن مدّ يدهّ إلى صف المقاعد ما قبل الأخير، متحسّساً بأطراف أصابعه خصر الشاب الجالس، فيما أعفي من في المقاعد الخلفية من التفتيش لتعذّر وصوله إليهم. فجأة، تبدأ إحدى الفتيات بالصراخ، ليتبيّن أنّه داس على رجلها، فينسحب بهدوء.
على الطريق إلى عوكر، ينشد الرفاق والرفيقات الأغاني الوطنية، وتزداد حماستهم كلما اقتربوا. «مطلب واحد للجماهير، حرق سفارة وطرد سفير»، يصدح صوت بهاء، فيردد وراءه الموجودون الشعارات. «يا شباب بهمة قوية، عالسفارة الأميركية»، و«لعيونك أحمد سعدات بدنا نفجر سفارات».
يصل المتظاهرون إلى عوكر، فيتجمعون قبل الحاجز الذي أقامته القوى الأمنية، ومعهم «عدتّهم» من كوفيات وليمون حامض وبصل تحسّباً لمواجهة القنابل المسيلة للدموع التي لا تخلو أي تظاهرة إلى السفارة الأميركية منها.
«خبّوا وجوهكم بالكوفيات، لا تندهوا لبعض بأسمائكم الحقيقية». يوجّه الرفاق الأكثر خبرة النصيحة للمبتدئين، فهنا القوى الأمنية تكون على أتمّ الاستعداد لتصوير المتظاهرين حتى «يتفيّشوا»، كما يقول أحد «الخبراء» لصديقه. يبدأ المتظاهرون بإطلاق شعاراتهم. «ردوا عليّ يا شباب/ أمريكا أم الإرهاب»، «حكام العرب التجار/ باعوا غزة بالدولار». بدأت تتخلل التظاهرات شعارات يبدو واضحاً أن مصدرها الشارع المصري: «طز واحد طز مية بأمير السعودية». تنطلق التظاهرة ويستمر الناشطون في ترداد الشعارات «حسني مبارك يا جبان، يا عميل الأمريكان»، «يا غزاوي دوس دوس على الخاين والجاسوس».
تصل الجموع إلى الحاجز الذي أقامته القوى الأمنية التي فاق عددها عدد المتظاهرين الخمسمئة، حسب المنظّمين (150 حسب الوكالة الوطنية). وسرعان ما يسحب الشباب أول سياج شائك ويدوسونه بأرجلهم أمام أعين ضباط الجيش الذين وقفوا على شرفة، فيما انهمك أحدهم بتصوير الشباب. يوجّه له المتظاهرون تحية «صوّر يا مخبر صوّر نحنا مش جايين نهَوْبِر». عندما حاول الشباب أن يهجموا على الصف الثاني من الأسلاك الشائكة، بدأت القوى الأمنية برشقهم، بادئة، بالحجارة!! ثم فتحت خراطيم المياه في اتجاههم، فأعادتهم قليلاً إلى الوراء لترشقهم بقنابل مسيّلة للدموع. لا يردعهم ذلك، فيغنّوا «رشّوا المي على الصفصاف/ شيوعية وما منخاف». ويعودون إلى الشريط الشائك ويرشقون القوى الأمنية بما يجدوه من حجارة كانو قد رُشقوا بها. ويبدأ «تبادل» للقنابل المسيّلة للدموع: ما إن ترشقها القوى الأمنية، حتى يعيدوها إليهم. وأطلقت قوى الأمن بعد ذلك بضعة قنابل وراء المتظاهرين لتحصرهم في مكان واحد، لكنّ ذلك لم يمنعهم من التقدم مجدداً. إذ عمد بعضهم إلى إنشاد بداية «رصّوا الصفوف» كلما تراجع الرفاق إلى الخلف لإعادة العزيمة إلى نفوسهم. ثم يكملون بـ«درب النضال طويل طويل، مع العمال والفلاحين، مع اليسار ضد اليمين»، ويتقدمون مجدداً باتجاه السفارة. وتقاسم المشاركون ما يحملونه من ليمون وبصل ما إن بدأت القوى الأمنية بإطلاق القنابل، لحماية أنفسهم منها. كما قام شبان عديدون بإحراق بضعة إطارات، بدا أن بعض المصوّرين الصحافيين قد تحسّبوا له بارتداء.. أقنعة واقية من الغازات السامة!