ماتت دينا وجواهر وسمر وإكرام وتحرير... كن نائمات، يحلمن بغدٍ تنتهي فيه الحرب، فيصطحبهن النهار إلى اللعب والضحك، وربما انتظار ابن الجيران. إلاّ أنهن وجدن أنفسهن في ثلاجة باردة، وإلى جانبهن أطفال كثر، شطرتهم القذائف...قضى الموت على كل شيء. بات أهالي قطاع غزة يشتاقون إلى تفاصيل حياتهم اليومية. لم يعد لديهم فرصة للحديث عن أحلامهم، مللهم، حكايات أطفالهم. سرقهم الموت من فرصة الحياة. تروي فادية النجار، من خزاعة شرق خان يونس، بعض لحظات الرعب: «شعرنا بأن الموت يقترب، وأننا سنموت حرقاً. كل شيء كان يحترق؛ البيوت والمزارع والأشجار. السماء والأرض كانتا مخيفتين، تنبعث منهما نيران ملتهبة تلتهم في طريقها كل شيء تلامسه. القنابل المخيفة، تنشر سحباً بيضاء لا ترى من خلالها أي شيء، حتى أطفالك الجالسين إلى جوارك. عشنا ليلة رعب حقيقية وبكينا كثيراً...».
فاديا (27 عاماً)، هي ربة منزل ولديها أسرة مكونة من 8 أفراد. كانت تقف إلى جانب زوجها المسعف، غانم النجار، الممدد على سرير مستشفى «الشفاء»، فيما يحاول زملاؤه المسعفون إنقاذ حياته جراء استنشاقه الكثير من الغازات والدخان
الأبيض.
تقول فاديا: «بدأت القذائف بالسقوط في كل منطقة وحيّ من بلدة خزاعة، وسقطت قذيفتان في محيط منزلنا، فاندلعت نيران في محيط المنزل صاحبه دخان أبيض كثيف أيقظت أبنائي. فيما كنا نسمع صراخ الجيران وهم يطلبون النجدة. وتمكنت بمساعدة المسعفين من الهرب إلى بيت أهلي بحثاً عن الأمان».
إلاّ أن الأمان لم يتحقق. إذ تشرح فاديا أن «الفاجعة كانت بعد نقلنا إلى بيت أهلي بساعتين، حين بدأت القذائف تتساقط على بيتهم واندلعت نيران مخيفة، وأحرق الطابق العلوي منه». وتضيف: «أرادوا حرقنا داخل المنزل الذي كان فيه ما يقارب 40 فرداً. الآن لا نعرف أين نذهب. احترق بيتنا وبيت أهلي، فيما تضرر بيت أهل زوجي بشكل كبير، لا نعرف أين نذهب الآن في هذا البرد
القارس؟».
كانت زكية النجار (51 عاماً) في حالة من الإرباك والخوف، وهي تتفقد باقي أفراد أسرتها الذين نقلوا إلى مستشفى ناصر لتلقي العلاج. تقول: «لا أعلم ما الذي حدث، ولكن في نحو الساعة العاشرة مساءً، حين كنا نجلس في منزلنا، سمعنا أصوات انفجارات كثيرة في أماكن متفرقة من منطقة خزاعة بدأت تقترب منا. شعرنا بحالة من الخوف الشديد لأن الحيّ الذي نقطن فيه قريب من الجدار الحدودي».
وتضيف أن «عدداً كبيراً من أطفالي كانوا نياماً. حاولت إيقاظهم لأني شعرت بأن البيت بات غير آمن، حتى بدأت القنابل تتساقط على المنزل المكون من طبقتين، وملأت سحابة من الدخان الأبيض البيت، فضلاً عن النيران التي بدأت تندلع. أخذنا نصرخ بأعلى أصواتنا، وشعرنا بحالة خوف شديد، وبدأنا بسحب الأطفال من داخل المنزل إلى الخارج للاحتماء في مكان آمن، لكن القصف كان يتواصل وسقط ما يزيد على ست قنابل على المنزل».
وتتابع النجار، وهي تتفقد أحد أبنائها المصابين في قسم الطوارئ في مستشفى ناصر والدموع تنهمر من عينيها، «لم نستطع إنقاذ باقي أفراد الأسرة بسبب الدخان.
أصابت شظايا القنابل الأطفال وحرقتهم. عم العويل والبكاء المنطقة بأسرها، التي كانت تحترق بأكملها».
وفي الليل، تمنى عادل قديح ( 48 عاماً) أن تحافظ العتمة على هدوئها، إلاّ أن أمنيته ما لبثت أن تحولت إلى كابوس مرعب، بعدما تساقطت قنابل الفوسفور الأبيض، فأحرقت ممتلكات المواطنين وأجسادهم من دون رحمة.
توجه عادل إلى المستشفى لتفقد أبنائه المصابين من آثار «الفوسفور الأبيض»، وهو في حالة إعياء شديدة نتيجة استنشاقه دخان القنابل. يقول: «عشرات القذائف الحارقة كانت تتساقط على منازل المواطنين، وبدأت أسمع صوت صراخ الأطفال والنساء المليئة بالفزع والعجز. وقفت أستطلع الأمر، فإذا بعدد من القنابل يسقط في فناء المنزل، تصاحبها حرائق في الأشجار وحديقة المنزل. أسرعت إلى الداخل لكي أوقظ أطفالي وأبنائي الـ 12. تمكنت بأعجوبة من إخلاء معظم أبنائي من المنزل بمساعدة عدد من المسعفين ورجال الدفاع المدني».
بين أنقاض منزل أسرة بعلوشة، دفنت طائرات الحرب الإسرائيلية طفولة خمس شقيقات. اختطفت صواريخ الاحتلال «دينا وجواهر وسمر وإكرام وتحرير»، حين استفاق أهلهن على مشهد مجزرة.
وأمام أنقاض البيت المدمر الذي لم يتجاوز غرفتين صغيرتين، جلس والد الأطفال الخمسة، أنور خليل بعلوشة أو «أبو محمد»، وهو يندب بناته ويستذكر أمنياتهن، ووعده بأن يبني لهن مستقبلاً جميلاً «يحلف به سكان المخيم». ويردّد بحرقة: «سامحوني يا بناتي، لم أعيّشكن كما كنتن تردن. سامحوني على الفقر الذي عشتنه في هذا البيت. فكل شيء لم يكن بيدي».
(الأخبار، معا)