هذه الجثة لنا، وتلك؟ سقط البيت بكل ما فيه. تراب يختلط بتراب. وفي هذه الرمال، يبحث الأحياء عن أشلاء كانت متحركة قبل أربعة أسابيع. بعد إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار، ها هم الغزاويون يتبادلون الجثث، ويصرخون...
غزة ــ قيس صفدي
«هنا كان مسجد، وهناك كان بيتي وإلى جانبه مزرعة الدواجن»، قال رفيق السموني، الذي صدمته مشاهد الدمار في حي الزيتون، جنوب شرق مدينة غزة، بعد نحو أسبوعين من الاجتياح البري الإسرائيلي.
رفيق (39 عاماً) كان أحد قلّة من أفراد أسرته، الذين نجوا من المجزرة الإسرائيلية التي أودت بحياة نحو 30 شخصاً من أفراد العائلة.
غادر رفيق وأفراد أسرته الثمانية منزله في الليلة ذاتها التي قصفت فيه طائرة حربية إسرائيلية منزلاً اجتمع فيه نحو 100 فرد من العائلة، جلّهم من الأطفال والنساء. وقال رفيق، لـ«الأخبار»، بينما كان منشغلاً في مساعدة فرق الإسعاف والطوارئ في انتشال جثث أقاربه من تحت الأنقاض، «لم يكن في مخططي مغادرة المنزل، لولا إصرار أحد أقاربي للإقامة لديه في بيته داخل مدينة غزة». رائحة كريهة تزكم الأنوف كانت تفوح في أرجاء المكان، استدعت من رفيق والمسعفين وضع «كمامات» على أنوفهم.
جثث الشهداء ليست مكتملة، وقد بدت عليها علامات التحلل، يقول رفيق. «تخيّلت أن الجريمة كبيرة، لكني لم أكن أتصور أنها بهذه البشاعة. جثث النساء والأطفال كانت متلاصقة، ومكدّسة بعضها فوق بعض من شدة القصف».
نجا رفيق من المجزرة. لكن مخالب الاحتلال تركت بصماتها على منزله ومزرعة الدواجن وأرضه الزراعية. يعلّق «لم أعد أمتلك شيئاً، كل شيء أصبح ركاماً».
سكان حي الزيتون يكررون وصف ما حلّ بهم بأنه «زلزال». كل ما في الحي لم يعد كما كان، منازل مدمرة وأخرى محترقة، وسيارات باتت كومة من الحديد المحترق، وأراض زراعية مجرفة، وعشرات الورش الصناعية المدمرة فقد أصحابها مصدر رزقهم الوحيد.
اقترب شاب من رفيق وسأله: «هل وجدتم حنان وابنتي؟ فقال «اطمئن، سنخرج الجميع»، وأسرع يلبّي نداء مسعف في انتشال جثة من تحت الأنقاض. وقف نائل السموني (37 عاماً) يترقب الجثة الجديدة، تفحّصها مراراً، الملامح كانت مشوّهة، لكنها لم تكن لزوجته أو ابنته.
ذهب نائل وعدد من أبنائه ليلة الجريمة إلى منزل أحد أقاربه، اتصلت به زوجته وأخبرته أن الاحتلال جمع العائلة كلها في منزل واحد. مرّ وقت قصير، حتى سمع عبر الإذاعات المحلية أن طائرة حربية إسرائيلية قصفت المنزل فوق رؤوس من فيه.
قضى نائل أياماً لا يعلم شيئاً عن مصير زوجته وابنته. توالت الأيام، وبدا مقتنعاً بأنهما قضيا تحت الأنقاض. قال «رفضت قوات الاحتلال السماح للصليب الأحمر وسيارات الإسعاف بانتشال الجثث من تحت الأنقاض، ربما كان بالإمكان إنقاذهما». توالى انتشال الجثث من تحت أنقاض المنزل. لم يتمالك نائل نفسه، وصرخ غاضباً «والله حرام، هذا إجرام»، متسائلاً «ما الذنب الذي اقترفناه حتى يحدث لنا كل هذا؟».
جرائم القتل والتدمير نالت من الجميع، لم يسلم منها أحد في الحي. وعلى مقربة من المنزل المدمر، انشغل حمادة السموني (38 عاماً) بلملمة بقايا ورشة الحدادة خاصته المجاورة لمنزله.
احتلت قوات الاحتلال منزل حمادة الذي يقيم فيه برفقة أشقائه العشرة وأسرهم المكونة من 40 شخصاً، وحوّلته إلى ثكنة. وقال «طردنا جنود الاحتلال من المنزل في الليلة التي قصفوا فيها منزل أقاربي. كانت أجواء مرعبة. خرجنا من المنزل من بين الدبابات، وكنا نشعر بأن الموت يحيط بنا من كل جانب، لكننا نجونا، المال معوّض، المهم الصحة».
كان جنود الاحتلال «ضيوفاً ثقلاء» في منزل حمادة، عاثوا فيه فساداً، حطموا الأثاث، وتركوا وراءهم مخلفات قذرة في أرجاء المنزل. لا يشعر حمادة بالأمان رغم وقف إطلاق النار، ويقول إنه «سينتظر أياماً قبل أن يعود لترميم منزله وورشته من جديد».
الطريق إلى حي الزيتون تمر من حي تل الهوى المجاور. مشاهد الدمار واحدة، ومعالم الحيّين اختلفت على سكانهما. غابت الشوارع الرئيسية، واضطرت السيارات إلى سلوك الطرق الوعرة التي شقّتها الدبابات. وقال سكان في حي تل الهوى، «كانت دبابات الاحتلال تتعمد شق طرق بديلة عن تلك الرئيسية، لتفادي العبوات الناسفة المزروعة وكمائن المقاومين».
أربع وعشرون ساعة قضاها الاحتلال في حي تل الهوى، المكتظ بالأبراج السكنية، جنوب غرب مدينة غزة، كانت كفيلة بتغيير معالمه. الدمار طاول كل شيء. الشوارع والشقق السكنية، المحال التجارية، وحتى المستشفى الوحيدة والمتنزه.
ووقفت زكية الدبور أمام أرضها الزراعية المجرفة في منطقة العطاطرة غرب بلدة بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، من دون أن تتمكن من تحديد حدود أرضها التي اختلطت مساحتها وأشجارها مع الأراضي المجاورة. لم تبد ندماً على ما خسرت، وقالت «لم نكن نتوقع من الاحتلال إلا ما فعل...».