مثّل مؤتمر المنتجين والمستهلكين للنفط الذي عقد في جدّة خلال الصيف الماضي، إشارة إلى أنّ الكرة في ملعب منظّمة الدول المصدّرة، وتحديداً السعوديّة. ولكن الانهيار المالي أوصل «أوبك» إلى مرحلة لا قدرة لها فيها على السيطرة: بعد خفض الإنتاج 2.2 مليون برميل يومياً وصل سعر البرميل إلى 34 دولاراً!
حسن شقراني
ترغب السعوديّة في رؤية سعر برميل النفط عند 75 دولاراً، لأنّه السعر «العادل» الذي يعكس أهميّة السلعة التي تنتجها وزميلاتها في منظّمة الدول المصدّرة للنفط، المسؤولة عن إنتاج أكثر من 40 في المئة من النفط في العالم. ولكن منذ بدء المنحى الانحداري لسعر البرميل لا يبدو أنّ المملكة والخليج بأجمعه وروسيا وفنزويلا.... تحصل على ما تريده حتّى في ظلّ اللجوء إلى التطرّف للسيطرة على السوق.
فبعد الإعلان عن أكبر خفض في تاريخ «أوبك»، بلغ 2.2 مليون برميل يومياً، أعربت السوق عن موقفها المتأثّر بدرجة كبيرة بالمناخ الاقتصادي العالمي الذي يفيد بأنّ الاقتصاد الكوني لن ينمو بنسبة تزيد عن 2.2 في المئة، بسبب موجة الركود، بعدما كانت النسبة المسجّلة العام الماضي 4.2 في المئة.
وبالتالي أدّى انخفاض الطلب على الوقود الأحفوري إلى محو أي أثر مرتقب، قبل ولادته حتّى، لأيّ إجراء كان تتوعّد «أوبك» السوق والمستهلكين باتخاذه في اجتماع القاهرة في 17 من الشهر الجاري. لتصل الحال بالأسواق في مرحلة ما من التداول أمس، إلى تقويم برميل النفط (بحسب العقود الآجلة في بورصتي لندن ونيويورك)، بأقلّ من 34 دولاراً، بعدما كان سجّل مستوى ذهبياً بلغ أكثر من 4 أضعاف هذا الرقم «الهزيل».
والمثير في هذا السياق هو الموقف السعوديّ من التطوّرات. ففي مؤتمر جدّة كان الملك عبد الله بن عبد العزيز مضيافاً وكريماً، وأعلن عن زيادة للإنتاج تبلغ قيمتها 200 ألف برميل يومياً، ليرتفع الإنتاج السعودي إلى 9.7 ملايين برميل يومياً، وهو المستوى الأعلى المسجّل منذ عام 1981، وبعدما وَعَد الملك الرئيس الأميركي جورج بوش خلال زيارة الأخير إلى الرياض في حزيران برفع الإنتاج بمقدار 300 ألف برميل يومياً.
هذه المكارم التي أوضحت السوق أنّ لا قيمة لها، حيث استمرّت الأسعار حينها بالارتفاع، يبدو أنّها ستتخذ منحى عكسياً في الوقت الراهن. فالتباطؤ الاقتصادي العالمي وانخفاض الطلب في البلدان الغنيّة والنامية سيزيدان من حدّة الركود العالمي العام المقبل: خفض الإنتاج لا يدفع الأسعار نحو الارتفاع (بل على العكس، هو يخفضها بفعل عامل الخوف من انّ ارتفاع الأسعار سيؤدّي إلى إنتاج أقسى) لذا فالتعويل على عودة الأسعار إلى المستويات المرغوبة يتطلّب عودة الاستهلاك إلى مستوياته المرتفعة. وكما كان الأمر متعلّقاً حين كانت الأسعار مرتفعة بأكبر منتج على الكوكب، فإنّ الأمر متعلّق الآن بأكبر مستهلك على الكوكب، الذي يرتبط النموّ العالمي به جذرياً: الولايات المتّحدة.
ومن هذا المنطلق يعوّل الملك السعوديّ وزملاؤه في النادي النفطي على كرم الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما في طرح خطّة التحفيز الاقتصادي التي يبدو أنّ قيمتها، بحسب تقرير نشرته صحيفة «Wall Street Journal» أمس، ستبلغ 775 مليار دولار، عبارة عن إنفاق عام على البنى التحتيّة والمشاريع، إضافة إلى خفوضات ضريبيّة.
ورغم حديث وزير النفط السعودي، علي النعيمي أمس، عن أنّ كل مصادر الطاقة ذات الجدوى الاقتصادية، بما في ذلك المصادر المتجددة، لها دورها في تلبية الحاجات العالمية، يبقى النفط السلعة الطاقويّة التي يعتمد عليها العالم أساساً، كما تعتمد عليها موازنات الدول المصدّرة له وبينها السعوديّة. ووفقاً لمحلّلين استطلعت آراءهم وكالة «رويترز» أمس، فإنّ انخفاض سعر برميل النفط دون 45 دولاراً سيؤدّي إلى نشوء عجز في ميزانيّات الدول الخليجيّة، وعلى رأسها السعوديّة.
ففي محاولة للحدّ من تأثيرات الأزمة الماليّة وانخفاض الإيرادات النفطيّة، خفض المصرف المركزي السعودي الفائدة الأساسيّة للتسليف وقلّص متطلّبات الاحتياطات النقديّة، وتعهّدت السلطات برفع الإنفاق العام في السنوات المقبلة. ولكن هذا الإنفاق لا يمكن أن يحصل من دون بترودولارات، الشريان الحيوي لإيرادات المملكة.
فهذا المصدر أدّى إلى بلوغ الإنفاق العام في البلاد في موازنة عام 2008، 109 مليارات دولار، مرتفعاً بنسبة 7 في المئة مقارنة بموازنة العام السابق. ولكن هذا النمط من البذخ في الإنفاق العام مهدّد بالتراجع ومعه مجموعة من المشاريع الاستثماريّة التي سيؤدّي توقّفها إلى ارتفاع معدّل البطالة. وجميع هذه الأمور مرتبطة بانتعاش الاقتصاد العالمي، وتحديداً الاقتصاد الأميركي، بفعل الخطّة التي يطرحها أوباما. ولكنّ هناك خوفاً من فشل هذه الخطّة إذا لم يتجاوب الأميركيّون الأكثر شراهة عالمياً لناحية الاستهلاك مع إجراءات رئيسيهم الجديد، خوفاً من عدم الأمان الذي رسخ في عقولهم خلال السنوات الثماني الماضية.


تراجع النموّ

توقّع تقرير أصدره مصرف «Standard chartred» تراجع معدل النمو السعودي إلى 2 في المئة من 2.7 في المئة، وفقاً لما نقلته وكالة «رويترز». وقال المصرف إنّ السيولة في السعودية أكثر من كافية وإن التباطؤ الاقتصادي المتوقع في 2009 سيكون معتدلاً، ولكن ذلك سيحصل مع تراجع إيرادات النفط بحسب جميع التوقعات. فبعض التقديرات تقول إنّ سعر البرميل سيبلغ 25 دولاراً العام المقبل، ما يعني أنّ إيرادات السعوديّة ستبلغ (بمستوى إنتاج عند 8 ملايين برميل) 200 مليون دولار يومياً بعدما تجاوزت الـ1.4 تريليون دولار في الصيف الماضي.