بعد أكثر من 60 عاماً من اتفاقيّة «بريتون وودز» التي أرست تقسيم النفوذ الاقتصادي والمالي بعد الحرب العالميّة الثانية، يجد العالم نفسه أمام واقع جديد يفرض توقيع عقد نوعي بين الأمم، أساسه منح الدول النامية صلاحيّات أكبر. هذا التوقيع سيجري على مراحل تبدأ اليوم بقمّة مجموعة العشرين «G20» في واشنطن
بول الأشقر
يقول وزير المال البرازيلي، غيدو مانتيغا، لدى إجابته عن سؤال لـ«الأخبار» بشأن فائدة اجتماع وزراء مال ومحافظي المصارف المركزيّة في بلدان مجموعة «G20» الذي استضافته بلاده السبت الماضي، «علينا تغيير سيّارة الاقتصاد العالمي دون أن يتوقّف عن العمل. أما بعد، فيجب تغيير المحرك أيضاً». واليوم تبدأ العمليتان. فواشنطن تستضيف قمّة لزعماء المجموعة، التي تضمّ أكبر عشرين اقتصاداً في العالم، مخصّصة لبحث كيفيّة احتواء آثار الأزمة الماليّة وبلورة أسس جديدة تحكم النظام المالي العالمي.
وعن آثار التسلّم والتسليم بين الرئيس الأميركي جورج بوش والرئيس المنتخب باراك أوباما، يبتسم مانتيغا ويهزّ رأسه قائلاً: «بالتأكيد سيكون هناك تنسيق من خارج الاجتماع، والمفاوضون سيحظون بثقة أوباما، والحاكم برنانكي باق ولو لفترة»، في إشارة إلى رئيس الاحتياطي الفدرالي الأميركي بن برنانكي الذي ألقيت على عاتقه في الفترة الأخيرة مسؤوليّات كبيرة متعلّقة بخفض أسعار الفوائد لتحفيز النموّ (أصبحت الفائدة الأساسيّة 1 في المئة)، إضافة إلى ابتكار آليّات لإنقاذ المؤسّسات الماليّة والمصارف المتعثّرة.
كلام الوزير البرازيلي ترطيبي ولا يوضح عمق التسلّم والتسليم هذه المرّة. وحتى هذه اللحظة، وإن كنا نتماهى مع أصداء «الحلم» الذي روّجت له حملة أوباما الانتخابية، فـ«التغيير» الحقيقي المطلوب منه التعاطي معه يكمن في معالجة إخفاق بوش في تحقيق هبوط ناعم (Soft Landing) لحظة نقل الولايات المتحدة من حقبة الأحادية إلى الآتي من بعدها. عمليّة انتقال تفترض تغييرات كثيرة، كتلك التي شهدها العالم لحظة انتهاء الحرب العالميّة الثانية. وأهم ما في تلك التغييرات، ما أرسي على الصعيدين الاقتصادي والمالي في إطار عمليّة إعادة توزيع النفوذ.
اتفاقية «بريتون وودز» التي رعاها الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1944 تكريساً لخروج الولايات المتحدة فائزة وحيدة من الحرب، كانت محور تلك التغييرات. ولكن صلاحيّتها انتهت تقنياً في سبعينيّات القرن الماضي عندما ضعف الدولار وانتهى دوره كـ«وسيط مترفع» ومعه دور صندوق النقد كـ«راعٍ حيادي».
مهما كان تاريخ وفاة «بريتون وودز»، العالم اليوم يعيش مرحلة تشبه عام 1929، عام انطلاق أسوأ أزمة ماليّة في تاريخ الرأسماليّة (حتّى الآن)، ومطلوب من زعمائه التصرف كأنّهم في عام 1944. وفي الحقيقة، وبحكم حجم تدخل الدول لتحاشي «الكارثة»، لسنا في عام 1929، وبغياب منتصر محدّد لسنا في عام 1944.
والحل الاقتصادي الصحيح لدى انتهاء الحرب العالميّة الثانية ونشوء التشكيلات الاقتصاديّة ـــ الاجتماعيّة الجديدة، اقترحه الاقتصادي البريطاني جون ماينرد كينز، وكان يتضمن إقرار عملة دوليّة موحّدة ومرجعية وحيدة للمصارف المركزية. واليوم، بعد فوات الأوان، الكل يحلم بالعودة إليه، ولكن مع بروز تغييرات في توزّع مكامن القوى الاقتصاديّة.
فعشية اجتماع سان باولو الأسبوع الماضي، التقت البرازيل وروسيا والهند والصين (مجموعة «BRIC») ودعت المكسيك وأفريقيا الجنوبية للاجتماع معها. وقدمت نفسها بصفتها تمثّل الجزء الأكبر من سكان العالم، إضافة إلى تمثيلها أكبر حصة في النمو الاقتصادي العالمي، في وقت تعاني فيه أوروبا والولايات المتّحدة انكماشاً اقتصادياً حاداً.
تلك الدول النامية طالبت بمأسسة اجتماعات «G20»، على مستوى القمة، وبإعادة تأهيل صندوق النقد الدولي، وهي تكتشف عمق التلاقي مع أوروبا. فالأخيرة أعربت عن استعدادها للتخلي عن حقها في تعيين مدير صندوق النقد، إذا تخلت الولايات المتحدة من جهتها عن تعيين مدير البنك الدولي! إضافة إلى مساومات أخرى متعلّقة بمنح حقوق لبلدان الخليج العربي مثلاً في مقابل مساهمتها المرتقبة في «الإنقاذ»...
عمليّات إعادة توزيع النفوذ ستنطلق في قمّة واشنطن اليوم، التي تحصل تحت ضغط احتضان الـ«نيو ليبرالية». ومن أجل تحقيق توزيع للخسائر مقرون بإعادة صياغة حجم الأطراف، ستحضر الاقتصادات الصاعدة هذه المرة بصفة جديدة: لم تعد ضيفةً بل أصبحت شريكة.
المصادر في ساو باولو تؤكد أنّه ستصدر عن قمة واشنطن في أحسن الأحوال لجان عمل متخصصة: تشريعيّة ومؤسساتيّة وماليّة، تُمنح 100 يوم للتحضير لقمّة جديدة في باريس. وقد يصدر عنها أيضاً بيان يكلّل مدائح «الرقابة» و«الدولة»، التي حلّت بسحر «أزمة تاريخية» محل «رفع القيود» و«حريّة السوق»، لأن المطلوب الآن تأمين «النقلة» حتى ينتهي بوش من تسليم أوباما ليعرف بعد ذلك، هذا الأخير، ما الذي سَلِم وما عليه أن يسلّمه، في مرحلة يطبعها التغيير، ليس فقط في الولايات المتّحدة بل في العالم أجمع.





نقطة بداية

التعليقات الممهّدة لما يمكن توقّعه من قمّة مجموعة العشرين اليوم تتفاوت جذرياً بين قياديّي تيّار «التغيير» (البلدان النامية وأوروبا) والولايات المتّحدة وحلفائها في مسار «السوق الحرّة». فغداة تشديد الرئيس الأميركي جورج بوش على أنّ «مبادئ السوق الحرّة لا تزال سليمة»، قال الرئيس المكسيكي، فيليب كالديرون، إنّ العالم يجب ألّا يتوقع نتائج كبرى من القمّة، مشيراً إلى أنّه «من الضروري اعتبارها نقطة بداية»، رغم تأييده فكرة منح القوى الصاعدة دوراً أكبر في النظام المالي العالمي.