لا تنفكّ مؤشّرات الهشاشة تظهر في أسواق المال في الولايات المتّحدة. فبعد انهيار المصارف الاستثماريّة وبدء عمليّة إعادة هيكلة الأسواق، وإن ضمن إطار احترام «مبادئ السوق»، يتضح خطر نشوء الخلل في سوق غير نظاميّة هي سوق «مبادلة عجز السداد» المخصّصة لتأمين السندات، وتبلغ قيمتها 60 تريليون دولار
نيويورك ــ نزار عبود
ينتاب أعتى المؤسّسات الماليّة والشركات الكبرى القلق عندما يُطرح عليها سؤال عن مصير بوالص التأمين التي يحملها الملايين من الأفراد والمؤسسات بعدما «تحترق» الأملاك والسندات التي أمّنوها. تسمّى سوقها بسوق «مبادلة عجز السداد» (Credit Default Swaps). صمّمت لتكون غير نظاميّة ولكي يستفيد منها كلّ من يرغب في الكسب السريع من دون حساب، بعيداً عن أعين الأجهزة الرقابية. فهي غير خاضعة لهيئة الرقابة المصرفية، وفيها يمكن تأمين سندات اقتراض الشركات من المستثمرين مثلاً. وكلما كان اسم الشركة معروفاً وثقة وكالات تصنيف الائتمان بها عالية، زادت جاذبية شراء تأميناتها، وانخفضت قيمة رسم التأمين السنوي.
وتختلف التأمينات من هذا النوع عن التأمين العادي في كونها تسمح للمؤمّن بالاستفادة من الخسارة مرات عديدة، بينما لا تتيح بوالص التأمين العادية أن يستفيد صاحبها أكثر من قيمة الملكية التي يؤمّنها، ولا يستفيد من التأمين إذا كان قد قوّم قيمة الملكية بأقل من ثمنها الحقيقي.
عندما كانت قيمة الديون أو السندات المؤمّنة ثابتة أو تميل إلى الارتفاع، لم يكن ضامن التأمين يبالي في عدد المرات التي يجري التأمين فيها. ففي كل مرة كان يتلقّى نسبة 2 في المئة مثلاً من القيمة الإجمالية سنوياً. ولو أمّن القرض نفسه عشرين مرة، لاستفاد بما نسبته 40 في المئة من قيمة الدين خلال سنة واحدة.
في المقابل، كانت تجارة تلك التأمينات تتم دون الحاجة إلى حيازة الأملاك الحقيقية. وبعبارة أخرى، كانت العملية تشبه من يشتري تأمين منزل لا يملكه، فإذا احترق المنزل استفاد العشرات بل المئات من حملة تلك البوالص بقبض قيمة التأمين على حساب الضامنين الذين كانوا ينتظرون نسبة الاثنين في المئة من كل بوليصة.
خلال الصيف الماضي، رفع رئيس تحرير نشرة يدعى ماثيو لي دعوى على الاحتياطي الاتحادي في نيويورك بسبب كتمان محضر اجتماع لمديري 17 مصرفاً مع رئاسة الاحتياطي الاتحادي. وكان الاجتماع يتعلّق بتلك السوق وافتراضات انهيارها. فالخشية كانت من أن يؤدّي انهيار مصرف استثماري مثل «LEHMAN BROTHERS» إلى الكثير من الانهيارات الحتمية تحت وطأة بوالص التأمين من هذا النوع على سندات المصرف مثلاً. آنذاك، لم يكن أحد يتصور أن المصرف الأخير كان في مهب الريح. ولم يمض وقت طويل حتى وقع الثور وكثر سلّاخوه. لكن ماذا يحدث عند انهيار قيمة سندات مثل هذا المصرف العريق؟
في السوق البديلة غير النظامية، هناك تأمينات بقيمة تتخطّى 60 تريليون دولار على أملاك كانت قيمتها في مطلع السنة الحالية نحو 5 تريليونات دولار ولم تعد بهذه القيمة، لكن قيمة تأميناتها ستبقى على حالها بغض النظر عما آلت إليه الأمور.
ولم تكن السوق غير النظامية ترفض التأمين حتى لسندات أقل شأناً من سندات «LEHMAN BROTHERS» ما دام المشتري كان مستعداً لدفع عمولة أعلى. وعليه، فإن سوق «مبادلة عجز السداد» المعرضة للانهيار الكامل مع تفاقم الأزمات المالية، يمكن أن تتحول بعد التدهور الشديد في قيمة الأسهم والشركات والمخاطر الاستثمارية التي تنطوي عليها إلى كرة نار لا تكفيها كل الأوراق المالية في العالم. فمبلغ الـ60 تريليون دولار يقارب مجموع اقتصادات العالم، وعليه فإن المصارف الأميركية بكاملها ليست في مأمن من الانهيارات بفعل التأثيرات الحتمية.
هذه السوق تحديداً كانت السبب الأهم في تفشّي شحّ السيولة بين المصارف في الأشهر الأخيرة. فالمصارف تلجأ إلى تأمين القروض التي تمنحها في سوق تأمين عجز السداد. وعندما انقلبت الأسواق تجمّدت الحركة في السوق غير النظامية. ولم تُستعَد السيولة للمصارف والشركات إلا بعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها مجلس الاحتياطي الاتحادي بكفالته المباشرة للقروض بين البنوك والشركات عند مستوى معين.
الخطوة المقبلة في عمليّة إصلاح الأسواق الماليّة الأميركيّة قد تكون بأن تقفل سوق تأمين عجز السداد إلى الأبد ملحقة خسائر تريليونية بحملة البوالص فيها. وإذا حدث هذا، فلن ينجو أيّ لاعب كبير أو صغير من الخسائر، كما أن كلفة الاقتراض سترتفع حتماً حتى ولو كانت فائدة الأساس متدنية. ذلك أن المصارف المركزية لا تستطيع ضمان كل القروض بين المصارف مهما بلغ حجم المبالغ التي وضعتها في السوق. وربما كان هذا هو أحد الأسباب الأساسية التي جعلت قمة مجموعة العشرين (G20) تترك الأمور في عهدة كل دولة لحلّها، بينما الأزمة الأميركية هي أزمة عالمية بكل المعايير، ولن ينجو من مخاطرها أي مستثمر في العالم.


ثقافة حيويّة

وعد المراقب العام على تطبيق خطّة إنقاذ الأسواق الماليّة البالغة قيمتها 700 مليار دولار، نيل باروفسكي، بأن يستخدم خبرته لمدّة 8 سنوات كمساعد للمدّعي العام الأميركي، لمقاضاة المتّهمين في قضايا الفساد المتعلّقة بالمنتجات الماليّة. وقال أمام اللجنة الماليّة في مجلس الشيوخ إنّه يتمتّع «بثقافة حيويّة لفهم بعض الأسباب الجوهريّة للأزمة الماليّة الحاليّة». ولفت إلى أن خبرته تتضمّن كيفيّة التعاطي مع المنتجات الماليّة الأكثر تعقيداً في السوق ربّما، وهي سندات «مبادلة عجز السداد»، التي أحدثت معظم الفوضى في «وول ستريت».