ظهر الأسبوع الماضي أنّ دول الاتحاد الأوروبي تواجه انقساماً في ما بينها على صعيد مواجهة تداعيات أزمة الائتمان العالميّة. والقمّة التي جمعت زعماء أكبر أربعة اقتصادات بينها في باريس، هدفت إلى تقريب وجهات النظر. النتيجة كانت اتفاقاً «يرضي الجميع» على دعم النظام المصرفي وتوفير السيولة، فيما الأفق لا يزال غامضاً
باريس ــ بسّام الطيارة
عقد قادة كبرى دول أوروبا قمّة مصغرة في باريس أوّل من أمس، لمواجهة تداعيات الأزمة الماليّة، وذلك بدعوة من الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، الفرنسي نيكولا ساركوزي. وضمّت القمّة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطاني غوردن براون ونظيره الإيطالي سيلفيو برلوسكوني، أي الأعضاء الأوربيّين في مجموعة الدول الصناعيّة الكبرى، «G7»، إلى جانب رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو ورئيس مجموعة اليورو، رئيس وزراء اللوكسمبورغ جان ـــــ كلود يونكر، ورئيس المصرف المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه.

مراجعة قواعد الرأسمالية

وبعد ساعات من التداول، انتهت القمّة بعقد مؤتمر صحافي مشترك في قصر الإليزيه تعهد خلاله المشاركون اتخاذ إجراءات لدعم المؤسسات الماليّة الأوروبيّة، وإعادة الثقة بالنظام المصرفي. كذلك دعا المجتمعون إلى تنظيم قمّة دولية لمراجعة قواعد الرأسمالية عموماً والتأكّد من عدم «تكرار الأسباب لكي لا تتكرر النتائج».
ومن النتائج الجانبيّة للقمّة أن الزعماء الأوروبيين أعلنوا، على لسان ساركوزي، أنه في حال تقديم دعم حكومي لمصرف يواجه صعوبات، فإن الدول الأعضاء تعهدت «معاقبة المسؤولين الذين سبّبوا إفلاسه». وفي المقابل تركت جانباً فكرة إنشاء صندوق لدعم المصارف التي كانت قد تقدمت بها هولندا ورفضتها ألمانيا بشدة. حيث أكّدت ميركل أنّ على كلّ دولة أن «تتحمل مسؤوليّاتها على المستوى الوطني»، قبل أن تستطرد محذرة من «المساس بمصالح الدول الأوروبية الأخرى» وأن تحترم قواعد المنافسة الشريفة، وفي ذلك إشارة مباشرة إلى «المسار الإيرلندي» الذي لم يتردد عضو في الوفد الألماني من وصفه بأنّه «أناني»، فالحكومة في دبلن تعهدت ضمان ودائع المصارف الإيرلنديّة، ما خلق «مجرىً هوائياً» استجلب رؤوس الأموال من مصارف أوروبيّة وأسهم بزيادة خلخلة أوضاع العديد منها.
وقد ظهر القلق على وجه ميركل منذ لحظة وصولها إلى باحة الإليزيه وخلال المؤتمر الصحافي، وخصوصاً أنّ مصرف «HYPO REAL ESTATE» المهدد بالإفلاس أعلن في بيان صدر خلال انعقاد القمّة، فشل خطة لإنقاذه بقيمة ٣٥ مليار يورو، بعدما رفض تجمع مصارف ألمانية المشاركة في تقديم هذا الدعم.
أمّا الشقّ الإيرلندي فقد مثّل قسماً صغيراً من الجانب الأوروبي للقمة المصغرة: فمن ناحية مبدئيّة تقتضي «قواعد اللعبة الأوروبية» التوصّل إلى «شبه إجماع» في ما يتعلق بخطط تمس هيكليّة الاقتصاد الأوروبي، وهو ما يظهر مباشرة عبر مطالبة ساركوزي المفوضيّة الأوروبيّة بأن «تبرهن على ليونة في تطبيق قواعد مساعدة الدولة للشركات» إذ إنّ إعادة تمويل المصارف ودعمها مباشرة أو عبر إجراءات إداريّة محفّزة تخالف القواعد الأوروبيّة لمنع الاحتكار وحريّة المنافسة. وكذلك الأمر في ما يتعلق بـ«ميثاق الاستقرار والنمو» الذي يحدد سقف العجز بـ«ثلاثة في المئة» من الناتج المحلّي الإجمالي.
وقد طالب ساركوزي بعكس «تطبيق ميثاق الاستقرار والنمو في هذه الظروف الاستثنائية» التي تمر بها أوروبا. إلا أنّ رئيس مجموعة اليورو، التي تضمّ 15 بلداًَ، رد على الفور عن منبر المؤتمر الصحافي، بالقول إنّه «يجب احترام هذا الميثاق بحرفيته»، ودعمه في هذا الموقف رئيس المفوضية الأوروبية، باروزو، ما يشير إلى أنّ الاتفاق لا يزال محدوداً بهدف «دعم ثقة المواطن الأوروبي» ولا يزال بعيداً عن توافق لسياسات بعيدة المدى.
ومن جهته، أكّد برلوسكوني هذا التوجه بقوله: «لقد عبرنا بوضوح وتصميم عن إرادة بلداننا في ضمان مدخرات مواطنينا وحماية ثقة المواطنين في النظام المصرفي الذي يجب أن يستمر في دعم الاقتصاد الحقيقي».

النقاط الـ ١٩

والقرارات التي تمس «الإيديولوجية الاقتصادية المتنوعة» داخل الاتحاد لا يمكن بتُّها «خلال ساعات معدودة» كما صرح أحد الخبراء المقرّبين من الرئاسة الفرنسية، إلّا أن هذا الخبير يعترف بأنّه اتُّخذت قرارات ستُسهم باستقرار نسبي للأسواق لأن «المأزق الحالي هو جفاف السيولة».
وقد أكّد ذلك رئيس الوزراء البريطاني، بقوله: «متى استلزم الأمر اتخاذ إجراء فعلنا كل ما يلزم»، واستطرد قائلاً إنّ الجهد سيتواصل «للحفاظ على استقرار النظام المالي»، مشيراً إلى أنّ نتائج اتفاق «قمّة الـ ٤» هي «الرسالة الموجهة إلى الأسر والشركات حول العالم في شأن ضمان توافر السيولة للحفاظ على الثقة والاستقرار».
وقد بدا ذلك جلياً من النقاط الـ ١٩ التي وزعها المؤتمرون وخصوصاً النقطة الأولى: 1ـــــ اتفاق المجتمعين على اتخاذ قرارات على المستوى الوطني والأوروبي لمواجهة الأزمة. 2 ـــــ «ضمان متانة واستقرار» النظام المصرفي والمالي الأوروبي واتخاذ «كلّ الإجراءات اللازمة لتحقيق هذا الهدف». 3 ـــــ «التعهد بالتعاون والتنسيق داخل الاتحاد الأوروبي» ومع الشركاء الدوليين، في إشارة إلى الولايات المتحدة والدول الناهضة. 4 ـــــ التشديد على أن نتائج القرارات المتخذة على صعيد وطني أو أوروبي سوف تؤخذ بالاعتبار في لفتة نحو دبلن. 5 ـــــ الترحيب بمجموعة القرارات التي اتخذها منذ بداية الأزمة «البنك المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا وغيرهما من المصارف الأوروبية المركزية بهدف تأمين سيولة للنظام المالي».
ثم انتقلت مقررات القمة إلى نقاط تمس هيكلية العمل المصرفي في المستقبل: 6 ـــــ دعوة «المؤسسات المالية إلى تنفيذ توصيات مجلس وزراء مالية الاتحاد الأوروبي (إيكوفان) حول «شفافية العمليّات المصرفيّة ومحدوديّة مخاطرها». 7ـــــ مطالبة المفوّضيّة الأوروبيّة بالتحرك بسرعة «وإظهار ليونة في قراراتها في شأن مساعدات الدول لمؤسساتها»، أي تطبيق ميثاق الاستقرار والنمو بشكل أكثر انفتاحاً ويأخذ في الاعتبار «استثنائية الوضع». 8 ـــــ ضرورة ربط المساعدة الحكومية للمصارف المتعثرة بإجراءات تحمي دافعي الضرائب وتحمل مسؤولي هذه المصارف تبعات سياسة إدارتهم وملاحقتهم، إذ تطلب الأمر مع مشاركة حاملي الأسهم في أعباء سدّ العجز. 9 ـــــ المطالبة بضرورة عدم وجود إجحاف بحق المؤسسات الماليّة الأوروبيّة جراء تطبيق «نظم محاسبة الأصول ومعايير القيمة الحسابيّة» وضرورة اتخاذ إجراءات سريعة «قبل نهاية هذا الشهر» لإعادة تقدير الأصول وتصنيف القيمة الحسابيّة.
ورحّب المؤتمرون (النقطة الـ12) بـ«قرار بنك الاستثمار الأوروبي تخصيص ثلاثين مليار يورو لمساعدة الشركات الأوروبية الصغيرة والمتوسطة»، وطالبوا بتطبيق سريع لهذه الإجراءات لدفع انعكاسات هذه الأزمة بعيداً عن الاقتصاديات الوطنية. كما رحبوا أيضاً (النقطة الـ11) بـ«قرار مجلس وزراء ماليّة الاتحاد فرض مراقبة صارمة على وكالات التقويم» وأعلنوا انتظار تشريعات جديدة بحلول منتصف تشرين الثاني لضبط هذه المهنة. كذلك دعوا (النقطة الـ12) لـ«تطوير منسّق للقوانين الأوروبيّة حول أمن الودائع» وأيّدوا سعي المفوضية لاقتراح نص في هذا الشأن بسرعة.

إطار مراقبة

وفي سياق تعاون دولي للوقوف في وجه الأزمة الماليّة ومعالجة نتائجها، دعت الدول الأربع (النقطة الـ13) «إلى عقد قمّة دوليّة في أقرب موعد ممكن» للعمل على إصلاح حقيقي وكامل للنظام المالي الدولي لإدارة الاقتصاد العالمي، تكون مبنية على «حسن إدارة ونزاهة ومسؤولية»، وبالتالي تبرز (النقطة الـ14) ضرورة إيجاد «إطار مراقبة» نظراً للانعكاسات الممكنة لهذه السياسة وهو ما يؤسّس (النقطة رقم 15) للدعوة لـ«هيئة من المشرفين على المؤسّسات المالية وخلية أزمات» من أجل «استيعاب الصدمات خلال الأزمات والحد من جموح أسواق المال خلال فترات الرخاء». ومن هنا الدعوة (النقطة الـ16) لوضع «مدونة سلوك» لنزاهة موظفي المؤسسات المالية وللتأكد من أن «نظام المكافآت والأجور والعمولات لا تشجع على المجازفات المفرطة».
وقد وعد الزعماء الأوروبيون في النقطة الـ17 من اتفاقهم، بـ«التدخل المشترك لضبط الإدارة الماليّة الدولية المبنيّة على الشرعيّة السياسيّة» عبر قوانين وقواعد رقابيّة تسمح بالتصدّي للأزمات، وهو ما رأى فيه بعض المراقبين إشارة إلى دور «مسالك التمويل غير الشرعية في المضاربات». وانتهت القرارات بالمطالبة (النقطة الـ18) بزيادة التعاون الأوروبي في المجال المصرفي والتفكير بإنشاء «خلية أزمات» تشارك فيها المصارف المركزية، ثم (النقطة الـ19) مع دعوة الدول الأعضاء لدراسة هذه المقترحات لوضعها حيز التنفيذ ودعمها في المحافل الدولية.
ولكن رغم هذا السيل من القرارات التي فيها ما «يرضي الجميع»، السؤال الذي كان يرفرف فوق رؤوس المجتمعين وفي أرجاء قاعة الإليزيه المذهّبة، هو: «هل تكفي هذه الإجراءات للوقوف سداً في وجه الأزمة ودرء الأخطار عن الاتحاد الأوروبي؟»، وخصوصاً في ظل تساؤل عمّا إذا كان إقرار خطة الإنقاذ الأميركية التي تبلغ قيمتها 700 مليار دولار وأقرّت في نهاية الأسبوع الماضي، «كافياً» لوقف الانهيار. أضف إلى ذلك سؤالاً بسيطاً: هل تتوافق الدول الـ٢٣ الباقية في الاتحاد الأوروبي على ما قررته الدول الـ ٤ في أجواء أزمة تتدافع فيها الدول، كل منها تحاول إنقاذ ما تيسّر من اقتصادها؟


صندوق الـ 300 مليار يورو

لفتت تقارير إعلاميّة الأسبوع الماضي إلى نيات أوروبيّة تتضمّن اقتراحات لإنشاء صندوق إنقاذ مصرفي أوروبي قيمته 300 مليار يورو (415.7 مليار دولار)، إلّا أنّه سرعان ما جرى نفيها إثر معارضة قوية من ألمانيا وبريطانيا. وكانت المستشارة الألمانيّة، أنجيلا ميركل قد شدّدت في السابق على أنّها لن توقع شيكاً على بياض. وأنفقت برلين مليارات اليورو لمساعدة مصرفين ألمانيّين متعثّرين لكنّها تخشى من أن تجبرها أيّ محاولة لإقامة صندوق إنقاذ أوروبي على تمويل عمليات إنقاذ أكبر من اللازم في دول أوروبيّة أخرى.