تتأثّر اقتصادات أميركا اللاتينيّة، مثلما هي الحال في العالم أجمع، بالأزمة الماليّة التي انطلقت جرّاء خلل «غياب التقنين والرقابة» في الولايات المتّحدة، جارتها الشماليّة. فهل يعود شبح الإفلاسات الذي سيطر عليها عندما كانت مختبراً للنيوليبراليّة، بعدما عاشت فترة بحبوحة نسبيّة خلال السنوات الأخيرة؟
بول الأشقر
مع وصول الأزمة الماليّة العالميّة لتمسّ اقتصادات أميركا اللاتينية، تحوّل مزاج رؤساء المنطقة من الانشراح إلى الاستنفار. بداية طرقت الأزمة باب البورصات، وقد توقفت الصفقات تلقائياً في بورصة سان باولو (عندما يسقط المعدل أكثر من عشرة في المئة) خمس مرات منذ بداية الأزمة. وهي حالة لم تعتدها بورصات «الغرب الأقصى»، حيث ينتهي نهار عمل مضاربي الأسهم، فيما يبدأ يوم جديد متواصل لبورصات الشرق الأقصى.
ولذلك، ولأنها أيضاً أكثر من أي شيء آخر صدىً مضخماً لما يحدث في «وول ستريت» حيث تُعقد الصفقات بالموازاة، تزداد ربحية هذه البورصات مع ربحية البورصة الأميركيّة والخسائر مع خسائرها. ويُقدّر أن الأزمة الماليّة في بورصة سان باولو وحدها قد ألحقت حتى الآن خسائر «افتراضية» تُقدّر بحوالى 500 مليار دولار بسعر اليوم، أي ما يساوي نصف الناتج الوطني السنوي. كذلك تراجع مؤشّر البورصة البرازيليّة 43 في المئة منذ بداية العام الجاري.
يقول مدير صندوق النقد الدولي في المنطقة، أوغوستو دي لا توري، إنّ اكتمال عناصر الإعصار، وهو عبارة عن زوبعة مالية معولمة وتراجع سريع لمستويات التنمية وهبوط قاس لأسعار المواد الأوليّة، يثير لديه نوعاً من الإحباط لأن المنطقة «ليست مسؤولة عن أيٍّ من هذه العناصر». وللحقيقة، لم يعرف النظام المصرفي الأميركي اللاتيني أي إفلاس، لأنه لم يشتر الأوراق الماليّة المتعلّقة بالرهون العقاريّة العالية المخاطر (SUBPRIME MORTGAGES). ولكن المنطقة بدأت تأخذ في الحسبان تراجع نسب النمو: 1 في المئة لهذا العام و2 في المئة للعام المقبل، مع أنّ المنطقة كانت ولا تزال تشهد حالة نموّ اقتصادي مثير.
فاقتصادات أميركا اللاتنية التي كانت خلال الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي مختبراً للنظريات النيوليبرالية ونالت قسطها من الإفلاسات في الثمانينيّات والتسعينيّات، أصبحت اليوم أكثر انتظاماً مما كانت عليه، فحجم دينها العام أصغر، واحتياطياتها من العملات الأجنبيّة تضاعفت، كذلك تنوّعت صادراتها. فمن أين يأتي الخطر؟
أولاً، من درجة ارتباط تلك الاقتصادات بالولايات المتحدة التي تبقى في كل الحالات شريكها التجاري الأول، وتحديداً بعض الدول كالمكسيك ودول أميركا الوسطى وكولومبيا، أكثر من غيرها. فعلاقة الاقتصاد المكسيكي مثلاً، مع الاقتصاد الأميركي، بنيويّة: 80 في المئة من الصادرات المكسيكيّة تذهب إلى السوق الأميركية، ومن الولايات المتّحدة تأتي تحويلات العمّال المكسيكيّين، التي شهدت في آب الماضي أكبر تراجع لها منذ 12 عاماً. ومن هناك أيضاً يأتي السيّاح، ورغم الخطر الداهم الذي تمثّله الأزمة، لم تتحرك حكومة الرئيس المكسيكي فيليبي كالدرون إلّا منذ أيام قليلة لتقرّ خطة لصرف 5 مليارات دولار تقريباً قائمة على استثمارات في البنى التحتية لتدعيم حركة الاقتصاد. أما في كولومبيا، فقد رفعت القيود عن الاستثمارات في الأوراق المالية ذات الربحيّة المحدّدة سلفاً، وأُعفي عن الرساميل الهاربة من البلد.
ثانياً، ينبع الخطر على الاقتصادات اللاتينيّة من شحّ مصادر التسليف. فالتنمية خلال السنوات الأخيرة في المنطقة كانت قائمة على بحبوحة التسليفات الدولية. ومن هذا المنطلق فإنّ جميع دول «أميركا الأخرى» ستتأثر بارتدادات الأزمة المالية. ومن استغل السنوات العجاج لتنويع علاقاته التجاريّة وتوسيع سوقه الداخلي، فربّما كسب على الأقلّ مزايا تفاضليّة بالنسبة إلى الآخرين.
ولنأخذ البرازيل مثلاً آخر للتعاطي مع الأزمة: هي فضّلت حتى الآن اعتماد المتابعة اليوميّة لمحاصرة الظواهر وردم الفجوات حيثما تظهر تباعاً، واستبعدت إقرار خطة طوارئ. بداية، استنفرت مصارفها العامّة العملاقة لتتدخل كسلاح احتياطي حيث تقتضي الحاجة. ففقدان السيولة قد يطال الجميع، من شبكات الإنتاج إلى شبكات التصدير.
وليّنت حكومة لولا دا سيلفا منذ أسبوعين شروط الاكتتاب الإجباري للمصارف، ما يساوي ضخاً غير مباشر بقيمة 55 مليار دولار في محاولة لتوفير السيولة. وخصّصت تسليفات للقطاع التصديري والزراعي بقيمة 2.5 دولار لكل منهما. وبالنسبة إلى الزراعة، يتفاعل شحّ التسليف مع خروج المضاربين من القطاع، علماً بأن صادرات المنطقة بالموادّ الأولية تمثّل 45 في المئة من مجمل صادراتها. وقد تتضاعف آثار هذا التراجع إذا تراجع الطلب الصيني، وهي فرضية ممكنة، نتيجة الانكماش الأميركي.


تزامن سلبي

تتزامن الانخفاضات الحادّة في مؤشّرات الأسواق الماليّة في بلدان أميركا اللاتينيّة، مع انخفاض في أسعار المواد الأوليّة التي تعتمد عليها تلك البلدان في مسيرة التنمية. ففي البرازيل حيث 60 في المئة من الصادرات هي مواد أوليّة، قد تصطدم مشاريع استخراج النفط بحاجز «عدم الجدوى الاقتصاديّة»، وذلك بعدما خفض مصرف «MORGAN STANLEY» نسبة النموّ المتوقّعة إلى 1 في المئة لعام 2009. أمّا في الأرجنتين، فإنّ انخفاض أسعار المواد الأوليّة الزراعيّة، قد يُشعل الصراع بين المزارعين والحكومة التي خفضت أخيراً إعانات الطاقة بـ1 مليار دولار.