خلال مراحل سابقة من العام الجاري، وبالتماهي مع تطوّر الأزمة الماليّة، لجأ المستثمرون في الأسواق إلى أصول يضاربون فيها على قيمة الدولار. ولكن مع ازدياد مؤشّرات الركود في أوروبا وآسيا، يعمد أولئك المستثمرون إلى تسييل تلك الأصول، ما دفع الدولار، أمس، إلى أعلى مستوى له أمام سلّة من 6 عملات خلال عامين. ولكن إلى أيّ مدى سترتفع قيمة العملة الخضراء؟
حسن شقراني
في إطار سعيهم لتجنّب المخاطر إلى أقصى حدود، وخصوصاً بعدما أدّت أزمة الائتمان والثقة في الأسواق الماليّة إلى خسائر قياسيّة في محافظهم، يسعى المستثمرون في الأوراق الماليّة والعملات إلى تغيير وجهات الثقل في استثماراتهم في الأسواق. فخلال الفترة الأخيرة عملوا على توظيف الأموال في أصول تعبّر عن عدم رغبتهم بالاحتفاظ بالدولار، الذي سعت الولايات المتّحدة إلى التخفيف من قيمته عالمياً، من أجل دعم اقتصادها عبر تحفيز الصادرات، فيما كانت السوق الداخلية تعاني من ارتفاع أسعار النفط، ويهدّد انخفاض الإنفاق الاستهلاكي فيها بإطلاق موجة ركود.
هواجس الركود لا تسيطر على الولايات المتّحدة فحسب، بل إنّ المرحلة الحاليّة تشهد ازدياد المخاوف من الانكماش في جميع أنحاء العالم. وآخر بوادر هذا الانكماش تظهر من أوروبا. وهذا الواقع يفترض تلقائياً أنّ بلدان الاتحاد الأوروبي ستسعى جاهدة لخفض أسعار فوائدها الأساسيّة من أجل تحفيز الإقراض وبالتالي النموّ، وخفض أسعار الفوائد (التي تبقى مرتفعة جدّاً، مقارنة مع الولايات المتّحدة حيث خفض الاحتياطي الفدرالي الفائدة الأساسيّة إلى 1.5 في المئة).
هذا التوجّه يقرأه جيّداً المستثمرون. ولذا، فهم يعمدون إلى تسييل الأصول التي يمتلكونها بالدولار، أو التي اشتروها معتمدين على المضاربة على سعر صرف الدولار، الأمر الذي دفع سعر صرف اليورو إلى الانخفاض إلى أدنى مستوى له أمام الدولار أمس، خلال 20 شهراً: 1.2831. وربّما يعتمد المستثمرون في تحليلاتهم على أنّ موجة الركود التي تهدّد الاقتصاد الأميركي، يمكن احتواؤها ربّما عبر رزمة محفّزات اقتصاديّة جديدة (غير تلك الرزمة الماليّة التي يبلغ حجمها 700 مليار دولار وتهدف إلى تهدئة الأسواق الماليّة). فرئيس الاحتياطي الفدرالي الأميركي، بن برنانكي، تحدّث في بداية الأسبوع الجاري عن أنّ حزمة من هذا النوع (كتلك التي حقن بموجبها 160 مليار دولار في الاقتصاد على شكل خفوضات ضريبيّة) قد تصبح ضروريّة في القريب العاجل.
وفي المقابل، فإنّ الاقتصادات الأوروبيّة، التي يحاول روّادها الاستمرار في توحيد قراراتهم في شأن تدابير الإنقاذ المالي التي اتخذوها في قمّة باريس، تواجه باطّراد مخاطر الركود. وقد يكون أوّل اقتصاد يتّضح سقوطه في شرك هذه الدوّامة الاقتصاديّة، هو الاقتصاد البريطاني (هبط الجنيه إلى أدنى مستوى له أمام الدولار خلال 5 سنوات). فالسلطات في لندن تكشف غداً عن النسبة التي نما على أساسها الناتج المحلّي في البلاد خلال الربع الثالث من العام الجاري. وهي نسبة يتوقّع أن تكون سلبيّة، بعدما كان الربع الثاني من العام الجاري، قد سجّل نسبة نموّ بلغت صفراً. والتعريف التقني التقني للركود هو تسجيل الاقتصاد المعني نسبة نموّ سلبيّة خلال عقدين متتاليين.
وهذه المخاوف (لم تعد مخاوف على أيّ حال) أكّدها رئيس الوزراء البريطاني، أمس، حين تحدّث عن أنّ بلاده لن تفلت على الأرجح من «الركود» الاقتصادي بسبب الأزمة الماليّة. وقال أمام مجلس العموم: «بعدما اتخذنا إجراءات للنظام المصرفي، علينا أن نتحرك ضد الركود المالي العالمي الذي سيؤدي على الأرجح إلى ركود في بريطانيا أيضاً».
وجاء حديث براون غداة تحذير صندوق النقد الدولي من انخفاض النموّ الاقتصادي في أوروبا انخفاضاً كبيراً، على أن يستعيد الأداء الاقتصادي عافيته في أواخر العام المقبل. وبحسب الصندوق، فإنّ أوروبا تعاني من ركود ملموس، حيث من المتوقع أن تنخفض نسبة النموّ المتوقعة إلى 1.3 في المئة لعام 2008 وإلى 0.2 في المئة لعام 2009 بعدما كانت قد سجّلت في عام 2007 نسبة 2.8 في المئة.
وإلى جانب هذه الأسباب، تدفع المستثمرين أسباب أخرى للتخلّي عن المضاربة ضدّ الدولار، بينها عودة رساميل من البلاد النامية إلى بلادها الأصليّة (والولايات المتّحدة على رأسها)، وانخفاض أسعار المواد الأوليّة واستمرار الضغوط في القطاعات المصرفيّة في العالم، والأهم، بحسب المذكور آنفاً، التعويل على خطّة اقتصاديّة تقرّها الإدارة الأميركيّة قريباً.
إذاً، فمثلما أدّت الأزمة الماليّة إلى تراجع الإقبال على الدولار بقوّة منذ بداية العام الجاري (وصل سعر صرف اليورو إلى مستوى قياسي أمام الدولار تجاوز 1.6)، تظهر خلال المرحلة الحاليّة توجّهات لاستعادة الاهتمام بالعملة الأميركيّة، ولكن إلى أي مدى قد ترتفع قيمتها؟
تنقل وكالة «رويترز» عن ورقة وزّعها مصرف «STANDARD BANK G20» على زبائنه، قولها إنّ السوق حالياً تشهد مفاعيل معاكسة لتلك التي صاحبت فقاعة الرهون العقاريّة، وبالتالي فإنّ سعر الدولار سيستمرّ في مساره التصاعدي، وقد يساوي سعر اليورو أمامه 1.20 خلال الأشهر الستة المقبلة.


انتكاسة

تشير توقّعات المعهد الوطني للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا إلى أنّ الاقتصاد البريطاني سينكمش بنسبة 0.9 في المئة في عام 2009 ليسجل أول ركود في عام كامل منذ عام 1991.
وقال المعهد إنّ «الاقتصاد البريطاني سيعاني مع مواجهته أسوأ انتكاسة بين دول مجموعة السبع». وتوقع هبوط كلّ من إنفاق المستهلكين بنسبة 3.4 في المئة واستثمارات الشركات بنسبة 3.8 في المئة. ويفترض بأنّ المصرف المركزي الإنكليزي سيخفض أسعار الفائدة بمقدار 0.5 نقطة إلى 4 في المئة أوائل عام 2009 رغم التضخّم.