تجلّت الرأسماليّة بأبهى حللها في الولايات المتّحدة، أمس. ففيما كانت السلطات تعلن أنّ الاقتصاد تقلّص بنسبة 0.3 في المئة خلال الربع الثالث من العام الجاري، كشفت شركة النفط العملاقة «ExxonMobile» عن أرباحها للفترة نفسها: رقم قياسي جديد بلغ 14.83 مليار دولار
حسن شقراني
58 في المئة هي نسبة ارتفاع أرباح شركة النفط العملاقة، «ExxonMobile»، خلال الربع الثالث من العام مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. رقم كبير يعكس ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة الأخيرة، قبل المنحى الانحداري الذي اتخذه بسبب غيوم الركود المخيّمة على اقتصادات العالم بسبب الأزمة الماليّة. الأرباح التي قاربت 15 مليار دولار (خلال 3 أشهر فقط!) تعتبر الأكبر في تاريخ الشركات الخاصّة عالمياً. ومن غير المستغرب أنّ الشركة التي حقّقتها أميركيّة. ففي الولايات المتّحدة تنقلب الموازين المتعلّقة بمردود السوق الحرّة وكارتيلات الطاقة والتأميمات المتلاحقة لإنقاذ الأسواق الماليّة. وقد ظهر هذا الانقلاب، أمس، حين أعلنت وزارة التجارة أنّ الناتج المحلّي الإجمالي في البلاد تقلّص بنسبة 0.3 في المئة خلال الربع الثالث من العام الجاري. وهو الانخفاض الأوّل من الربع الأخير من العام الماضي. ورغم أنّه يعتبر أقلّ من توقّعات الاقتصاديّين (0.5 في المئة)، إلّا أنّه يؤكّد أنّ أكبر اقتصاد في العالم متّجه نحو فترة ركود (مصنّفة تقنياً بأنّها تلحق ربعين شهدا نموّاً نسبياً في الناتج المحلّي الإجمالي)، وأنّ انعكاسات الأزمة الماليّة العالميّة عليه ستكون كبيرة، إذا لم تُعتمد رزمة محفّزات اقتصاديّة، أعرب رئيس الاحتياطي الفدرالي، بن برنانكي، عن تبنّيه لها.
ويعاني اقتصاد الولايات المتّحدة الأمرّين منذ نحو عامين، أي منذ بدء ظهور الخلل في قطاع المنازل، وهبوط الأسعار المصطنعة للعقارات. فمن جهة هو اقتصاد يعتمد على الاستهلاك، ومع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسيّة وانخفاض ثقة الأميركيّين بالمنحى الذي يسير عليه الاقتصاد وكيفيّة إدارة السلطة لموجبات انتعاشه، ينخفض الاستهلاك ويُكبَح النموّ. ومن جهة أخرى، فإنّ الأزمة الماليّة التي تمظهرت في مرحلتها الأولى من خلال انهيار حاد لمؤشّرات البورصة وأسعار الأسهم، تبشّر الآن بمؤشّرات اقتصاديّة سلبيّة أساسها ارتفاع معدّلات البطالة (يبدو أنّها ستكون 7 في المئة في الولايات المتّحدة في نهاية العام الجاري)، وتراجع الإنتاج، كنتيجة حتميّة للمشكلة التي سيطرت على سوق الائتمان.
ويظهر من أرقام وزارة التجارة (لا تزال على أيّ حال تقديرات ويمكن أن تكون أكبر) أنّ الإنفاق الاستهلاكي انخفض بنسبة 3.1 في المئة خلال الربع الثالث، بسبب انخفاض الإنفاق على السلع المعمّرة (التي تستخدم لثلاث سنوات أو أكثر) بنسبة 14 في المئة، كما انخفض الإنفاق على السلع غير المعمّرة مثل الملابس والمأكولات بنسبة 6.4 في المئة، وهو أكبر انخفاض منذ عام 1950.
وكان النشاط الاقتصادي في الولايات المتّحدة قد بقي صامداً نسبياً خلال المراحل الأولى من العام الجاري بسبب ارتفاع حجم الصادرات التي حفّزها التراجع في سعر صرف الدولار. غير أنّ الربع الثالث كان سلبياً أيضاً على الصادرات التي نمت بنسبة 5.9 في المئة، بعدما كانت نسبة نموّها 12.3 في المئة خلال الربع السابق.
واللافت هو أنّه فيما هذه الأرقام تظهر هشاشة الاقتصاد الأميركي في هذه المرحلة: الدين العام تجاوز 10 تريليونات دولار، والعجز في الموازنة وصل إلى مستوى تاريخي بلغ 458 مليار دولار، والشركات تقوم بتسريح الموظّفين وبإجراءات خفض الأكلاف... تظهر أرقام أخرى التراجعات الحادّة في الاقتصادات الأوروبيّة المتوقّع أن تدخل في مرحلة ركود أيضاً إذا لم تنجح إجراءات التحفيز التي تعتمدها الحكومات... ولكنّ أرباح الشركات النفطيّة مرتفعة.
فإلى جانب «ExxonMobile»، أعلنت شركة «RoyalDutchShell» أنّ صافي أرباح الكلفة الجارية للإمدادات في الربع الثالث من العام الجاري قفز 71 في المئة إلى 10.9 مليارات دولار يعززها ارتفاع أسعار النفط ومبيعات الأصول.
وهذا التباين يظهر الهوّة الحادّة بين شركات «الرأسماليّة» والمصلحة العامّة في المجتمعات الرأسماليّة. فمثلما كان الوضع عليه في موضوع الأسواق الماليّة والرقابة عليها: المصارف الاستثماريّة حقّقت أرباحاً قياسيّة ولكن من دون أن تؤمّن «وسادات» لاحتواء السقوط، وعندما سقطت طلبت مباشرة المساعدة الحكوميّة، التي من المفترض أنّها للشعب ودافعي الضرائب... الوضع يبدو مشابهاً للشركات النفطيّة: فهذه الشركات تحقّق أرباحاً تاريخيّة بسبب ارتفاع أسعار النفط. ولكن ماذا لو انخفضت هذه الأسعار؟ إلى من يلجأ العمّال المسرّحون؟... الأرقام الأميركيّة الأخيرة دفعت المستثمرين إلى بيع عقود النفط خوفاً من مؤشّرات الركود الذي يبدو أنّه سيأتي حتماً.


7 آلاف موظّف

في إشارة لافتة إلى الأوقات الصعبة التي ستواجه شركات بطاقات الائتمان، أعلنت شركة «AMERICAN EXPRESS» أنّها ستطرد 7 آلاف موظّف، أي ما يمثّل 10 في المئة من قوّتها العاملة، في إطار جهود لخفض الأكلاف بـ1.8 مليار دولار خلال عام 2009. كما ستقوم الشركة بخفض الاستثمارات في التكنولوجيا والتسويق وتنمية الأعمال، وستخفض الأكلاف المتعلّقة بالاستشارات وخدمات احترافيّة أخرى. وتظهر هذه الإجراءات التي تقوم بها الشركة، التي تميّز نفسها بزبائنها المتمكّنين مادياً، أن لا أحد يمتلك مناعة إزاء الأزمة الماليّة.