توضح أرقام مكتب الإحصاء المركزي البريطاني، التي نشرت الشهر الماضي، أنّ اقتصاد البلاد دخل في مرحلة ركود، مسجّلاً نسبة صفر في المئة من النموّ خلال الربع الأوّل من العام الجاري، ومنهياً مرحلة 15 عاماً من النموّ المستمرّ. وهو يدخل الآن طوراً تؤدّي فيه أزمة الائتمان إلى ارتفاع معدّل الجريمة والاضطرابات الاجتماعيّة، بحسب الحكومة!
حسن شقراني
لم يعد هناك مجال لتجاهل العقدة التي تعانيها اقتصادات البلدان الصناعيّة. فتراجع نسب النموّ التي ولّدها رفع أسعار الفوائد لمواجهة معدّلات تضخّم قياسيّة، يؤدّي إلى تباطؤ اقتصادي يتحوّل إلى ركود، ويهدّد جدياً الجهود اللاحقة الهادفة إلى الإنعاش.
الحكومة البريطانيّة تبذل جهوداً ضخمة من أجل إعادة شيء من الثقة بأدائها وبـ«طروحات حزب العمّال»، أمام المدّ المحافظ الذي يرى في الفجوة الاقتصاديّة فرصة ثمينة لتوجيه الضربة القاضية للحكم المترنّح. ولكن هذه الجهود يبدو أنّها غير مجدية على الصعيد الاقتصادي، إذ إنّ الركود تظهر مفاعيله الاجتماعيّة على شاكلة تحذيرات من تحوّل الغضب الشعبي من ارتفاع كلفة المعيشة وارتفاع معدّلات البطالة إلى حقيقة يترجمها ارتفاع العنف بشكل عام.
ففي وثيقة سريّة أعدّتها لمصلحة رئيس الحكومة غوردن براون، وسُرّبت محتوياتها أمس، تقول وزيرة الداخليّة، جاكي سميث، إنّ أزمة الائتمان العالميّة، التي بانت انعكاساتها الحادّة في المملكة المتّحدة، ستؤدّي إلى ارتفاع معدّلات الجريمة وحدّة العنصريّة والتهريب، وحتّى الإرهاب.
وتحذّر الوثيقة من أنّ تراجع عجلة الاقتصاد «يولّد خطر انتشار مشاعر التطرّف اليميني والعنصريّة، ما يؤدّي إلى تحوّل الغضب الناتج من التعاطي بعنصريّة إلى أحد الأسباب التي تدفع الأشخاص للتحوّل إلى إرهابيّين». وتشير إلى أنّ العدائيّة تجاه المهاجرين ستزداد، فيما سترتفع حدّة المنافسة على وظائف لا ينفكّ المتوافر منها ينخفض.
ويأتي الكشف عن هذا التصوّر المخيف والمضرّ جداً بوضع براون وحكومته حالياً، بعد يومين من تحذير وزير المال، أليستر دارلينغ، من أنّ الأوضاع الاقتصاديّة هي الأسوأ منذ 60 عاماً، وتشديده على أنّ البريطانيّين غاضبون من الحكومة، فيما النموّ وصل إلى نقطة الصفر.
المسؤول في مكتب وزارة الداخليّة، طوني ماكنولتي، خفّف من أهميّة التحذيرات المذكورة، وقال إنّ الوثيقة تشير إلى ما هو واضح أصلاً، أي إنّ «التجربة السابقة توضح أنّه عندما يواجه الاقتصاد تراجعاً، فقد ترتفع مؤشّرات بعض أوجه الجريمة... وقد ترتفع معدّلات البطالة ويمكن بالتالي تركيب السيناريو الذي تريده».
وفيما العديد من المراقبين يشبّهون التراجع الاقتصادي الحالي، بحقبة الركود التي عاشتها البلاد خلال السنوات الأولى من تسعينيّات القرن الماضي، التي شهدت أيضاً ارتفاع معدّلات الجريمة، تضيف الوثيقة موضحةً أنّه إذا استمرّ النمط الذي يسري على أساسه الاقتصاد حالياً خلال العامين المقبلين، فإنّ جرائم الاعتداء على الملكيّة سترتفع بنسبة 7 في المئة مع نهاية العام الجاري، وبنسبة 2 في المئة خلال العام المقبل، على أساس سنوي.
كذلك فإنّ التراجع سيدفع نحو إعادة تقويم الحاجة إلى العمّال المهاجرين، وتحديداً في قطاع البناء الذي يعتمد بهامش كبير على جهودهم. كما إنّ نقص الموارد سيؤدّي إلى اتخاذ خيارات صعبة في ما يتعلّق بعدد عناصر الشرطة وأولويّاتهم.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ ماكنولتي يصرّ على أنّ الوثيقة «تقول أيضاً إنّنا الآن في وضع أفضل ممّا كنّا عليه في خضمّ مواجهة أزمات مماثلة خلال سبعينيّات وتسعينيّات القرن الماضي». ولكنّ لحزب المحافظين منظوراً مختلفاً، فأعضاؤه يشيرون إلى أنّ الوثيقة تعتبر إفادة بأنّ تباطؤ عجلة الاقتصاد يهدّد الأمان الاجتماعي للبريطانيّين.
ويقول وزير الداخليّة في «حكومة الظلّ»، دومينيك غرييف، إنّ «المقلق هو أنّ وزارة الداخليّة تعاني أصلاً من مشاكل مماثلة، نتيجة التراجع الاقتصادي، ويتضح أنّها غير مجهّزة لمواجهتها... الآن نحن نرى أنّ عواقب إدارة غوردن براون السيّئة بالكامل للاقتصاد، لن تؤثّر فقط على عائدات الأسر العاملة، ولكنّها ستمسّ أمنهم وسلامتهم».
وبالفعل فإنّ الأرقام التي نشرها مكتب الإحصاء المركزي، أوضحت أنّ أداء الاقتصاد البريطاني هو الأسوأ منذ عام 1992. فقطاع الخدمات، الذي يعدّ أساس الاقتصاد، نما بنسبة 0.2 في المئة فقط خلال الربع الأوّل من العام الجاري، بينما هبط إنتاج القطاع الصناعي بنسبة 0.8 في المئة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وتراجع إنفاق الأسر بنسبة 0.1 في المئة.
مؤشّرات سلبيّة تؤكّد الحكومة أنّها نتيجة الأزمة الاقتصاديّة العالميّة التي أطلقها الخلل في سوق الائتمان. ولكن انعكاساتها الاجتماعيّة وما تفترضه من اضطراب الأمن الداخلي، ترعب غوردن براون وتعيد تأكيد مبدأ ضرورة سلامة الاقتصاد لضمان «الطموحات الاجتماعيّة»... والسياسيّة.


جوانب إيجابيّة!

علّق متحدّث باسم وزارة الداخليّة البريطانيّة على الوثيقة المسرّبة المتعلّقة بأداء الاقتصاد بالاستقرار الاجتماعي، بالإشارة إلى «الجوانب الإيجابيّة». وقال، حسبما نقلت عنه وكالة «فرانس برس»، «في العادة نحن لا نعلّق على الوثائق المسرّية، والموضوع هنا يتعلّق بمسوّدة لم توضح تفاصيلها وزارة الداخليّة ولم ترسلها بعد إلى رئاسة الحكومة... ونحن واثقون من أنّ أنظمتنا المناسبة جاهزة للردّ» على أي تحذير ممكن أن تتضمّنه الوثيقة ويقلق البريطانيّين، الذين انخفض تأييدهم للحكومة العمالية بمعدّل قياسيّ