اتضح خلال المعمعة الماليّة في «وول ستريت»، أنّه ليس هناك مؤسّسة ماليّة بمنأى عن هجوم المضاربين وتداعيات قلق المستثمرين، فالانهيارات المتتالية أظهرت إفلاس نموذج الأعمال هناك، ولا سيما بعد إعلان مصرفي «MORGAN STANLEY» و«GOLDMAN SACHS» أمس، أنّهما سيبدآن «الخضوع للتقنين»... فهل انتهت حقاً «الحقبة الذهبيّة»؟

حسن شقراني
حتّمت مرحلة الكساد العظيم التي بدأت في نهاية عشرينيّات القرن الماضي وانتهت في العقد اللاحق، تطوير النظام المالي في الولايات المتّحدة لمواكبة الابتكارات، ولهذا السبب أُقرّ قانون «GLASS-STEAGAL» للفصل بين المصارف الاستثماريّة وتلك التجاريّة، وأصبح هذان النوعان من المؤسّسات الماليّة يخضعان لمعايير مختلفة من التقنين والرقابة والولوج إلى موارد الاحتياطي الفدرالي.
ومنذ ذلك الوقت، بدأت المصارف الاستثماريّة عمليّة تطويريّة تثير غيرة جميع اللاعبين في الأسواق الماليّة، بسبب الأرباح الضخمة التي نتجت منها والمكافآت التي كانت توزّع للمديرين المرموقين الذي وجدوا في تجنّب تطبيق المبادئ التقليديّة، والمراهنة بهوامش مرتفعة جداً من المخاطرة على الصفقات، سبيلاً جيّداً للتحوّل إلى «ملوك وول ستريت».
ولكن تلك المخاطرة حسبما أظهرت التطوّرات الدراماتيكيّة الأخيرة، تخطّت الخطوط الحمراء، ولم تعرّض «وول ستريت» فقط، بل بورصات العالم كلّه لخسائر كبيرة. وكان نتيجة ذلك أن أعلن مصرف «LEHMAN BROTHERS» إفلاسه، بعد استسلام «BEAR STEARNS» للاستحواذ، ودخلت الأسواق في دوّامة من عدم اليقين دفعت المستثمرين للجوء إلى النفط والذهب، والسلطات الأميركيّة (الاحتياطي الفدرالي ووزارة الخزانة) إلى طرح خطّة قيمتها 700 مليار دولار لإنقاذ السوق من الأصول الماليّة «المسمّمة» المتعلّقة بالرهون العقاريّة، لـ«إزالة التوتّر».
يوم أمس يوم تاريخي في عالم المال والأعمال في الولايات المتّحدة، من ناحية أنّ النموذج الذي أرسي في الأسواق الماليّة بعد الكساد العظيم، شهد «استسلام» آخر أركانه: المصرفان الاستثماريّان الباقيان «MORGAN STANLEY» و«GOLDMAN SACHS».
فقد لجأ هذان المصرفان إلى الاحتياطي الفدرالي للتحوّل إلى مصرفين «قابضين»، وبالتالي الخضوع لمعايير الرقابة التي تفرضها السلطات النقديّة والماليّة على المصارف التجاريّة: التقيّد بمتطلّبات سقوف الرسملة، والخضوع لإشراف العديد من المؤسّسات الحكوميّة الرقابيّة عوضاً عن لجنة الرقابة على الأسهم والتبادلات، «SECURITY AND EXCHANGE COMMISSION»، فقط.
ولكن في المقابل، سيحظى المصرفان بحقّ الولوج إلى كل أوجه الإقراض من الاحتياطي الفدرالي، ما يفترض أن يجنّبهما ملاقاة مصير «LEHMAN BROTHERS» و«MERRIL LYNCH» و«BEAR STEARNS»، التي وقعت ضحيّة أزمة الائتمان.
واللافت في تحوّل المصرفين إلى «خاضعين للتقنين»، هو أنّه قبل عام فقط، كان القيّمون عليهما يرون أنّه يجب تجنّب إجراءات الرقابة والتقنين بأيّ طريقة ممكنة، وذلك على عكس المصارف التجاريّة. وفي هذا الصدد، تذكر صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ «جماعات الضغط» التابعة لمصارف مثل «GOLDMAN SACHS»، أمضت سنوات تحارب الرقابة المشدّدة على أعمالها.
ويمكن القول إنّ الخطوة التي قام بها المصرفان، هي آخر الحلول بالنسبة إليهما، في ظلّ التوتّرات القائمة في الأسواق. فـ«MORGAN STANLEY»، كان يبحث خلال الفترة الأخيرة عن شارٍ محتمل، قيل إنّه يمكن أن يكون مؤسّسة الاستثمارات الصينيّة، يستطيع تجنيبه شرّ التطوّرات في «وول ستريت». وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ طريقة عمل المصرف الاستثماري، توفّر له أرباحاً قياسيّة، لأنّها تفترض التالي: الاعتماد كثيراً على الأموال المقترضة (LEVERAGE) لتنفيذ العمليّات الاستثماريّة في الأصول الماليّة.
وعلى سبيل المثال، فإنّ «LEHMAN BROTHERS» كان في نهاية العام الماضي، يمتلك 700 مليار دولار، هي عبارة عن أسهم وسندات وأوراق ماليّة أخرى، فيما كانت قيمة استثمارات مساهميه تبلغ 23 مليار دولار فقط، ما يعني أنّ معدّل الاعتماد على الدين لتحقيق الأرباح يبلغ 30/1، كذلك يعني أيضاً ارتفاع نسبة تعرّض أموال المقرضين لمخاطر متزايدة إذا فشلت صفقات ماليّة معيّنة، أو عمّت السوق موجة ذعر.
والأرباح القياسيّة المذكورة كانت توفر «مكافآت» قياسيّة للمديرين. فحسبما يذكر المحلّل الاقتصادي في صحيفة «واشنطن بوست»، روبرت سامويلسون، فإنّ المديرين الماليّين لتلك المصارف، الذين يتمتّعون بأكثر من 15 عاماً من الخبرة، قد يتقاضون مكافآت في نهاية العام قد تصل إلى 10 أضعاف رواتبهم الأساسيّة، تتراوح بين 200 ألف دولار و300 ألف دولار!
تلك الأرباح والمكافآت الضخمة يبدو أنّها ستتلاشى تدريجاً مع عودة الأسواق إلى مرحلة التعقّل، نسبياً. كان يصعب جداً تخيّل «وول ستريت» من دون مصارف استثماريّة، ولكنّها تشهد إحدى دورات الرأسماليّة.




عواقب وخيمة

حذّر الرئيس الأميركي جورج بوش، أمس، من أنّ التلكّؤ في إقرار الكونغرس لخطّة إنقاذ الأسواق الماليّة، التي طرحتها إدارته وتبلغ قيمتها 700 مليار دولار، قد يكون له «عواقب وخيمة» على الاقتصاد. وقال إنّ «الأميركيّين يراقبون الآن إذا كان يستطيع الديموقراطيّون والجمهوريّون ومجلسا الشيوخ والنوّاب، الاتفاق على التعاون لحلّ هذه المشكلة بالشكل الطارئ الذي تتطلّبه». وما قد يؤخّر إقرار الخطّة، هو رغبة الديموقراطيّين في ألّا تنحصر الخطة في القطاع المصرفي، بل أن تسهم في إنقاذ المتضررين من أزمة القروض العقارية.