التماهي الشكلي، وإن اختلفت الأسباب، بين مواقف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمنظمة المناهضة للعولمة «أتاك»، لجهة الترحيب بـ«فشل دورة المفاوضات الجديدة لمنظمة التجارة العالمية»، يكشف عن مأزق العولمة التجارية وسياسات التحرير التي كانت منذ عقد بمثابة «الديانة» الطاغية
باريس ــ بسّام الطيارة
هدّد الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي الأسبوع الماضي بعدم توقيع اتفاق تحرير التجارة العالمية، المعروف بـاسم «جولة الدوحة»، وأعلن المتحدث باسم حكومته، لوك شاتيل، أنّ باريس لن توقِّع المشروع بالشكل الذي كان مطروحاً عل أساسه، إذ إنه «لا يتضمن أيّ تقدّم في المسائل الأساسيّة».
فالحكومة الفرنسية ترى أن مسائل مثل «مصدر التصنيع» غائب، وهو أساسي لـ«حماية مصالح الصناعة الأوروبية في وجه الدول الناشئة»، ورغم تصريحها بأنها «متمسكة منذ وقت مضى بتشجيع الدول الأخرى ولا سيما الأكثر فقراً بينها»، إلا أن شاتيل شدّد على أنّه «حتّى وأن كان يتحتم على أوروبا أن تؤدي دوراً محركاً في هذا الصدد، يعود لها في الوقت نفسه أن تسهر على حماية المصالح الأوروبية».
«أتاك» ترى أنّ الاتفاق لو أقرّ لكانت له «نتائج سلبية خطيرة جداً لبلدان الشمال، وخصوصاً فرنسا في مجال الزراعة» غير أنها تستطرد بأنّ «دول الجنوب أيضاً كانت ستتضرر في مجال الزراعة والصناعة على السواء»، وخصوصاً أنّ صناعاتها لا تزال يانعة لا تقوى على منافسة صناعة الدول المتقدمة في حال فتح الأسواق.
وهي تقول إنّ «الرغبة القوية بجعل كلّ شيء سلعة، وأن تكون الإفادة للأغنياء، أفراداً وبلداناً، فإنّ مثل هذه الاتفاقات على موعد مع فشل دائم»، لأنّ «منظمة التجارة العالمية بشكلها الحالي لا تفيد». وتطالب بقواعد جديدة للتجارة العالمية تأخذ بعين الاعتبار «احتياجات البلدان جميعاً وعمال العالم والالتفات إلى التوازن البيئي».
وكانت جمعيّات غير حكومية عديدة قد طالبت المتفاوضين بتجاوز «مبدأ السلعية» (merchandising)، مشدّدةً على أنّ ملفات مهمّة للإنسانيّة مثل «المياه والتربية والصحة والخدمات الاجتماعية» يجب ألا تخضع لمبادئ العرض والطلب. كما أشارت إلى أنّ «حيثيّات المفاوضات لا تلحظ أيّ بند يتعلّق بالعمّال ولا بالبيئة». وفي هذا الصدد لفت أكثر من ناشط وخبير إلى ضرورة تعلّم درس «الأزمة الغذائية التي تعصف في العالم اليوم»، بسبب ضرورة «الاعتراف بأن السيادة الغذائية هي حق من حقوق الإنسان يتجاوز قواعد التجارة».
البعض رأى أنّ انهيار الاتفاق كان بسبب عدم الاتفاق عى فتح قطاع الزراعة في الدول الغنية وقطاع الصناعة في الدول النامية أمام المنافسة. ولكنه بات معروفاً أن المحادثات قد انهارت بسبب الخلاف على اقتراحات لمساعدة المزارعين الفقراء في الدول النامية على مواجهة الغرق في الواردات الزراعية من الدول الغنية التي تدعم مزارعيها وتدعم صادراتهم، وتدعو في المقابل إلى فتح أسواق الدول الفتية أمام قطاع الخدمات الذي يشمل المصارف وشركات التأمين، إضافة إلى خفض الرسوم الجمركيّة سعياً لوصول منتجاتها الصناعيّة إلى هذه الأسواق، ما كان يمكن أن ينعكس سلباً على صناعات ناشئة.
ولتبيان سبب «توافق أضداد» على الترحيب بانهيار الاتفاق يجب الدخول في تفاصيل واقع حال القوى الاقتصادية حالياً. إذ إن الإشارة إلى أنّ فتح الأسواق أمام السلع الصناعيّة «يفيد دول ناشئة بالدرجة الأولى» هو صحيح، إذا عددنا الصين والهند والبرازيل والمكسيك وتركيا في مصاف الدول الصناعية النامية، ولكن هذه الدول ما عدا البرازيل ليست بدول زراعيّة مع عدد سكان مرتفع جداً.
وفي المقابل، فإن الدول الغنية لم تعد تمتلك صناعات متوسطة يمكنها منافسة منتجات الدول الناشئة، وبالتالي فهي تقدّم «هدية مجانية» كما ذكر أحد المفاوضين لـ«الأخبار»، وتطالب بالمقابل بفتح الأسواق أمام منتجاتها الزراعية. وليس لدى الدول الناشئة أي مشكلة في فتح أسواقها أمام «منتجات زراعية رخيصة مدعومة من حكومات غنيّة» كما قال المفاوض، فـ«طلبها على المواد الغذائية بتزايد متواصل» يتبع بذلك نسب نموها العالية، إلّا أنها في المقابل تتمنع عن فتح أسواق الخدمات، حيث لا تزال مؤسساتها هشّة ولا تقوى على منافسة الدول الغنيّة.
وفتح الأسواق أمام السلع الزراعية أو الصناعية يعني «سحق صناعات وزراعات الدول الفقيرة فضلاً عن الارتهان في مجال الخدمات»، أما بعض الدول التي لديها بعض الزراعات القابلة للتصدير، فهي لا تستطيع تصديرها بسبب إغلاق أسواق الدول الغنية حماية لمنتجات مدعومة مثل السوقين الأوروبيّة والأميركيّة. ومن هنا يمكن فهم معارضة دول زراعية كبيرة مثل فرنسا للاتفاق وتوافق الجمعيات الناشطة المناهضة للعولمة في هذه المعارضة التي ترى أن «الدول الفقيرة تدفع دائماً الثمن».


لوم على أميركا

ألقى وزير التجارة الهندي، كمال نات، اللوم على الجانب الأميركي في عرقلة التوصّل إلى اتفاق لتحرير التجارة الدوليّة، خلال محادثات جنيف. وقال: «خلقت الولايات المتّحدة عقدة في مسألة ليست تجاريّة، بل تتعلّق بطبيعة حياة المزارعين. يمكنني المفاوضة في التجارة، ولكن لا يمكنني تجاهل أمن المزارعين»، مشدّداً على أنّ نيودلهي لن تضحّي بصالح ملايين المنتجين الزراعيّين فيها لمصلحة ولادة اتفاق للتجارة الكونيّة، ومشيراً إلى أنّ بلاده مستعدّة لاستئناف التفاوض، ولكن «من دون المساومة على القضايا الحسّاسة».