سجّلت اقتصادات فرنسا وألمانيا وإيطاليا، انخفاضات حادّة في مؤشّرات ثقة الأعمال خلال الشهر الجاري. التطوّر يلفت إلى نمط خطير من التراجع في منطقة اليورو، التي تحاول بلدانها الـ15 إيجاد توليفة صعبة التحقّق بين إعطاء زخم للنموّ ومواجهة تضخّم نسبته قياسيّة
حسن شقراني
صندوق النقد الدولي متشائم حيال النموّ العالمي، ويقول في ورقة بحثيّة نشرها أخيراً إنّ هذا النموّ سينخفض من 5 في المئة في العام الماضي، إلى 4.1 في المئة خلال العام الجاري، وإلى 3.9 في المئة عام 2009. وهذا التراجع في الأداء إلى ما دون المقوّمات، سيكون متركّزاً في الاقتصادات المتقدّمة: الولايات المتّحدة واليابان وأوروبا.
وفيما لا ينفكّ الطلب يتوسّع في البلدان النامية، على الرغم من الضغوط التضخّميّة، تعزى أسباب التركّز المذكور إلى الارتفاع في أسعار النفط، الوقع القوي لنسب التضخّم المرتفعة على إنفاق المستهلكين، وإلى الخوف من التدهور السريع في أداء الاقتصادات الصناعيّة، وهو الأمر المترافق مع تراجع في أداء المؤشّرات في البورصات العالميّة.
أوروبا، وتحديداً منطقة اليورو، لكونها أحد أعمدة النظام الاقتصادي القائم، تمسّها موجة التراجع (انخفاض نسب النموّ) بشكل كبير، وخصوصاً أنّ أولويّاتها الاقتصاديّة تنبع من هاجس نقدي: مواجهة التضخّم. ولهذا يبدو اعتماد محفّزات النموّ، ومنها خفض أسعار الفوائد، مسألة معقّدة، وخصوصاً أنّ النسبة المعياريّة للتضخّم قد حدّدت بـ2 في المئة من جانب المصرف المركزي الأوروبي.
الأداء الاقتصادي في منطقة اليورو، كما تتوقّع «النظرة التشاؤميّة» لصندوق النقد، بدأت تتمظهر أوجهه. فبحسب مؤشّر «PMI» الذي يعدّ مهماً في توقّع أنماط النموّ وتصدره مجموعة دراسات السوق، «MARKIT»، فإنّ نشاط الأعمال في منطقة اليورو قد تقلّص في تمّوز، بشكل أكثر تطرّفاً من المتوقّع، وقارب أدنى مستوى له منذ 11 أيلول 2001 (تاريخ الهجمات الإرهابيّة على نيويورك).
وانخفاض المؤشّر إلى 47.8 نقطة، بعدما كان 49.3 نقطة في حزيران، يشير إلى التدهور في نشاط القطاع الخاص في البلدان الأوروبيّة الـ15 التي تعتمد اليورو عملة موحّدة، والتي تعاني في الوقت نفسه نسباً قياسيّة للتضخّم. وفي هذا الصدد، يرى الاقتصاديّون أنّ هذا التقلّص المسجّل لشهرين على التوالي هو «إشارة سيّئة» إلى حال اقتصادات اليورو، وإذا لم يتمّ التعافي خلال الشهرين المقبلين، فإنّ الربع الثالث من هذا العام، سيشهد تراجعاً أيضاً، يوضح أنّ الجهود التي تحاول بذلها السلطات الاقتصاديّة والنقديّة الأوروبيّة، مقوّضة بمعضلة التضارب بين هدفين: مواجهة التضخّم وإعطاء زخم للنموّ.
وفي السياق التشاؤمي أيضاً، قدّر المصرف المركزي الأوروبي أمس، أنّ يكون العجز في الحساب الجاري في منطقة اليورو قد بلغ في أيّار الماضي، 7.3 مليار يورو (11.5 مليار دولار)، بعدما كان قد سجّل فائضاً قيمته 1.5 مليار يورو في نيسان الماضي. وإذا صدقت توقّعات المصرف، فإنّ الرقم المسجّل في أيّار سيسجّل تراجعاً بنسبة 156.15 في المئة مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.
إذاً فجميع هذه المؤشّرات السلبيّة تهدّد بالقضاء على تفاؤل يبديه المصرف المركزي الأوروبي من خلال توقّع عودة للنموّ خلال النصف الثاني من العام الجاري، كما تلفت إلى أنّ البيئة الاقتصاديّة الأوروبيّة تهدّد بالقضاء على آمال السياسيّين في القارّة العجوز في التمكّن من تجنّب تراجع اقتصادي بحجم ذلك الذي يسِم الولايات المتّحدة.
ولكن طيف تفاؤل لا يزال يلوح في أفق الأسابيع المقبلة، وخصوصاً في ظلّ الارتفاعات التي يسجّلها سعر برميل النفط يومياً (نزل أمس إلى الـ125 دولاراً أي أقلّ بـ22 دولاراً من مستواه القياسي التاريخي المسجّل في أوائل الشهر الجاري)، إضافة إلى توقّعات إيجابيّة متعلّقة بتقرير أداء الشركات الأوروبيّة.
وعلى الرغم من النسبة القياسيّة للتضخّم (4 في المئة) المتوقّع أنّ تبقى فوق الـ3 في المئة خلال الأشهر المقبلة، يبدو، بحسب المحلّلين أنّ المصرف المركزي الأوروبي غير متوجّه نحو خفض أكثر للسعر الأساسي للفائدة الذي رفع في وقت سابق من الشهر الجاري إلى 4.25 في المئة.
إذاً فمثلما تنتظر الولايات المتّحدة التصحيح وعودة التوازن إلى الأسواق الماليّة من خلال عودة أسعار النفط إلى مستويات منطقيّة، تبدو أوروبا ـــــ اليورو، الساعيّة إلى تجنّب المرور بمرحلة الركود التضخّمي، مراهنة أيضاً على زخم تعيشه الصناعات ويولّده انخفاض مرتقب لأسعار المواد الطاقويّة.
... في تعليق على هبوط مؤشّر المناخ الاستثماري، الذي تصدره مؤسّسة «IFO»، في ميونخ، يقول المحلّل في مصرف «UNICREDIT»، أندرياس رييس، حسبما تنقل صحيفة «FINANCIAL TIMES»، «مؤشّر IFO يهبط كالصخرة والأسوأ قد يكون آتياً».


مستقبل دون تضخّم!

يشدّد النائب الأوّل لرئيس البنك الدولي، جون ليبسكي، في ورقة بحثيّة، على ضرورة موازنة الاقتصادات المتقدّمة للنموّ مع العمل لإحداث توازن في الأسواق الماليّة وكبح جماح التضخّم. ويقول: «خطر حدوث جولة جديدة من الارتفاع في أسعار المواد الأوليّة واستمرار الاضطرابات في الأسواق الماليّة، يعقّدان عملية عكس التراجع» في النموّ. ويضيف: «يجب مراقبة الضغوط التضخّميّة عن كثب، لأنّ استغلال مكتسبات العقود السابقة في عمليّة خفض التضخّم وتوقّعات نسبه، سيقلّل جدياً من فرص التقدّم الاقتصادي في المستقبل».