بقي الكثير ممّا ناقشه قائدي القوتين العظميين، الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي دونالد ترامب، في قمّة هلسنكي، الشهر الماضي، غامضاً، فقد خاض الرئيسان اجتماعاً مغلقاً لمدة ساعتين، لم يحضره سوى المترجمين، كما لم يكشف محتواه للصحافة، ولم يطلع عليه مستشارون أساسيون للرئيس الأميركي إلّا لاحقاً. لكن وثيقة مسرّبةً من قبل أحد مستشاري ترامب عن اللقاء، تمنح رؤيةً إضافيةً لما حصل داخل ذلك الاجتماع التاريخي. فقد كشفت مجلّة «بوليتيكو» عن محتوى اللقاء الخاص الذي دار بين بوتين وترامب، في 16 تمّوز الماضي، في وثيقة روسية مسرّبة، «مطالب» من الجانب الروسي، محورها قضية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية. أوضحت «بوليتيكو» أن الوثيقة تضمّنت «الأولويات» التي طرحها بوتين في الاجتماع المغلق مع ترامب، أبرزها نيّة روسيا تمديد العمل باتفاقات نووية مفصلية والسعي إلى إعداد اتفاقات جديدة في هذا الإطار.
وفق المجلّة، فقد رفض البيت الأبيض التعليق على محتوى الوثيقة المسرّبة إليها من مصدر يقول إنه حصل عليها من مسؤولين روس، بل نفى البيت الأبيض أن يكون قد تلّقى في اللقاء أي ورقة عمل.

أبرز ما نشرته «بوليتيكو» من الوثيقة المعنونة «حوار بشأن قضية الحدّ من التسلح»، والتي لا تتضمن تفاصيل عن أي مواضيع أخرى ذكرها الطرفان في مؤتمرهما الصحافي، خصوصاً سوريا، علماً أن الوثيقة تتضمن مقترحات روسية إلى الإدارة الأميركية:
تمديد اتفاقية «ستارت» الجديدة للحدّ من الأسلحة النووية لخمس سنوات، والتي تنتهي مدّتها في عام 2021 وهي اتفاقية وقعها الرئيس السابق باراك أوباما مع بوتين في عام 2010. تنصّ الاتفاقية على اقتصار عدد الرؤوس النووية لكلا البلدين على 1500 رأس براً وبحراً، كما تسمح بعمليات تفتيش دورية.
تظهر الوثيقة سعي موسكو إلى «إعادة تأكيد التزامها» باتفاقات تغطّي الصواريخ الباليستية وسيطة المدى، والمقصود هنا اتفاقية «القوى النووية وسيطة المدى» لعام 1987 التي وقعها الرئيس الأميركي حينها، رونالد ريغن، مع رئيس الاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشيف. حرّمت تلك الاتفاقية الصواريخ الباليستية الثابتة أو الموجهة، بمدى 500 إلى 5500 كلم. تتهم واشنطن موسكو بخرق تلك الاتفاقية بتطويرها صاروخاً موجهاً بمدى أوسع من 500 كلم، ودعى بعض صقور الجمهوريين الرئيس ترامب إلى الخروج منها، بينما منح الكونغرس الإدارة الحق بتمويل لتطوير نسخة أميركية من الصاروخ الموجه.
تشير الوثيقة الروسية أيضاً إلى سعي موسكو إلى التوصل إلى اتفاقية فضاء جديدة، تمنع كلا البلدين من نشر أسلحة في الفضاء. كلا البلدين موقعان على اتفاقية عام 1967 للفضاء الخارجي التي تمنع فقط نشر الأسلحة النووية في الفضاء.
يناشد الروس في الوثيقة بضرورة معالجة التطرّق إلى التوترات في شرق أوروبا، مقترحين في الوثيقة بأن تقوم كلّ من واشنطن وموسكو «بتدابير لتفادي حوادث أثناء القيام بنشاطات عسكرية في أوروبا، إضافةً إلى رفع مستوى الثقة والشفافية في النطاق العسكري».
تدعو الوثيقة إلى اللجوء إلى آراء «خبراء بهدف تحديد أنواع الأسلحة المزعزعة للاستقرار، ولأخذ آرائهم في الحسبان عند العمل على آلية للحدّ من التسلّح».
تتحدّث الوثيقة عن احتمال عقد لقاءات بين روسيا والولايات المتحدة. تقترح عقد استشارات «الاستقرار الاستراتيجي» التي يقودها نائب وزير الخارجية الأميركية ونظيره الروسي، والتي قد تطاول النقاشات فيها عدداً من المواضيع الحساسة، مثل سوريا. توصي الوثيقة أيضاً بعقد اجتماعات «2+2» بين وزيري الدفاع والخارجية الروسيين ونظيريهما الأميركيين. وتدعو أيضاً إلى اجتماعات بين رؤساء القوى المسلّحة الروسية والأميركية.

«فخّ بوتين»
خلال مؤتمرهما الصحافي في هلسنكي، تطرّق بوتين إلى موضوع الحدّ من انتشار الأسلحة النووية، علماً أنّ هذا الموضوع لطالما كان محورياً في العلاقة الروسية ــ الأميركية لعقود. غير أنّ الأزمات المستجدّة في سوريا وأوكرانيا، كما موضوع التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية عام 2016، سرقت الأضواء من قضية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية.
لكن اللقاءات غير الرسمية بين البلدين في هذا الإطار لم تتوقّف. آخرها كان في 24 تمّوز/ يوليو الماضي، في موسكو، بين ممثلين عن الخارجية الروسية والبعثة الدبلوماسية الأميركية في روسيا، برئاسة الدبلوماسي الأميركي توماس بكيرينغ.
وفق أحد المشاركين في ذلك اللقاء، فإنّ «التفاصيل الجديدة دليل على أن بوتين لا يزال مهتماً في الحفاظ على التعاون التقليدي في شأن الأسلحة النووية بين البلدين على رغم كلّ اختلافاتهما الأخرى». تابع مصدر «بوليتيكو» بالقول إن هذا يظهر رغبةً روسية في التعاون مع الولايات المتحدة حول شريحة «واسعة من القضايا الأمنية».
يبقى غامضاً ما ناقشه الطرفان في شأن «التعاون في سوريا»، وهو ما لم يتمّ إيضاحه في الوثيقة المسربة، لكنها نقطة ما زالت تثير البلبلة في واشنطن. الأسبوع الماضي، قال مدير الاستخبارات القومية الأميركي، دان كوتس، إنه «ليس بموقع الحديث أو الفهم الكامل لما حدث في هلسنكي».
بالنسبة لاستشارات «الاستقرار الاستراتيجي»، يبدو البنتاغون «متحمساً» لاستعادتها، إذ أعلن مساعد وزير الدفاع الأميركي، جون رود، الشهر الماضي في لقاء في «مؤسسة آسبن»، أن الآلية جارية حالياً من أجل «تحديد مدة زمنية ومكان وموعد للقاء من أجل عقد محادثات استراتيجية»، متابعاً أن هذه المحادثات تتضمّن «فهماً واضحاً لنظرتنا للعقيدة النووية». بشكلٍ عام، توضح «بوليتيكو» أن في أوساط السياسة الخارجية الأميركية، هناك «إيجابية حذرة» في ما يتعلّق بالتعاون مع الروس، كما أنّ هناك تأييداً واسعاً لضرورة أن تستغلّ الولايات المتحدة الفرصة لمواصلة العمل مع الروس في الحدّ من التسلّح.
فيما لم تنف أو تؤكد الإدارة الأميركية حصول أي اتفاق في شأن النقاط المذكورة في الوثيقة، حذّر بعض الصقور المحافظين في الولايات المتحدة من منح الثقة لفلاديمير بوتين في شأن اقتراحاته للحدّ من التسلّح. يعتبر هؤلاء أن بوتين يسعى إلى التشويش على أولويات ترامب بتحديث الترسانة النووية الأميركية وخلق قوة فضائية عسكرية للتأكيد على «السيطرة الأميركية» خارج الأرض.
أبرز تلك الانتقادات جاءت من «مركز السياسات الأمنية» وهو مركز محافظ يرأسه مارك غافني، أحد حلفاء مستشار الأمن القومي، جون بولتون. اعتبر المركز في تصريح أن عرض بوتين في هلسنكي ليس سوى «فخ»، وتابع أن «بوتين قال إنه يريد استعادة التعاون الثنائي في مجال الحدّ من التسلح مع الولايات المتحدة، لكن هذا الاقتراح، الذي تفضّله مؤسسة السياسات الخارجية في الولايات المتحدة، سيحرم الولايات المتحدة من قدرتها الحاسمة على مكافحة التحديث النووي الاستراتيجي الذي يقوم به بوتين؛ سيحرم أميركا الحقّ في الدفاع عن نفسها بمواجهة اعتداءات بصواريخ باليستية؛ وسيقتل تصوّر ترامب بتشكيل قوّة عسكرية فضائية». حضّ المركز المحافظ على ضرورة أن يقوم ترامب «بمقاربةٍ جديّة لإجبار بوتين على الدفع مقابل حدّه من التسلّح، مع وضع مصالح أميركا الدفاعية أولاً».