لندن | لا يمكن الاعتداد بأجوبة أنقرة في البحث عن حلول لأزمتها الاقتصادية المستجدة لدى «مسكّنات» الأصدقاء والحلفاء، وعلى رأسهم قطر. تقف تركيا اليوم أمام أسئلة الاقتصاد، كما التاريخ والجغرافيا، لتعيد صياغة علاقاتها بالولايات المتحدة تحت طائلة مساءلة الدور والمكانة من قبل الحليف التاريخي، بما هو أبعد من الأزمتين الدبلوماسية والجمركية. فتلك أزمات سرعان ما يتضح يوماً بعد آخر أنها تخفي وراءها إشكاليات أشد حرجاً، ستفرض على صاحب القرار التركي مواجهتها في مدى ليس ببعيد.سارع أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، أثناء زيارته إلى أنقرة، أمس، إلى التعهد للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بتوجيه حزمة عاجلة من الاستثمارات والودائع، تقرب قيمتها من 15 مليار دولار أميركي. وذلك في محاولة لإسناد حليفه الإقليمي، الذي يتعرض اقتصاد بلاده لأزمة غير مسبوقة، نتيجة تراجع قيمة العملة التركية (الليرة) لأكثر من 70 في المئة مقابل قيمتها بداية العام، وهو مستوى قياسي غير مسبوق. وعلى رغم أن ذلك التعهد أعطى الأتراك فسحة من الوقت للتعامل مع الانهيار المتسارع في قيمة عملتهم، لا سيما أن البنوك التركية ستظل مقفلة لعدة أيام في خلال عطلة نهاية الأسبوع وعيد الأضحى، فإنه من غير المرجح أن تغير الأموال القطرية بشكل جذري مسار أزمة الاقتصاد التركي الذي يعاني من مصاعب بنيوية. مصاعب مردّها الإنفاق الزائد على القطاعات غير المنتجة، وزيادة التقديمات الاجتماعية لاستقطاب تأييد الناخبين من خلال الاعتماد الاستثنائي على الاقتراض المكثّف بالعملة الأميركية، التي تزداد قوّة بعد قرار مصرف الاحتياط الفيدرالي رفع قيمة الفوائد على الدولار. وستكون البلاد محتاجة، وفق خبراء، إلى ما لا يقل عن 100 مليار دولار على الأقل، وفي وقت عاجل، لاستيعاب الأزمة المتصاعدة، إذا لم يغيّر الفيدرالي قراره، قبل أن تتحول تركيا إلى بوابة موجة ركود وانكماش اقتصادي عالمي، تشبه تلك التي تعرّض لها الاقتصاد العالمي إبان أزمة تايلند و الأزمة المالية الآسيوية (1997). إذ إن دولاً أخرى عدة تعاني سلبياً من آثار قوة الدولار، وعلى رأسها الصين، ثاني أكبر اقتصاديات العالم، ما يتسبب بقلق واسع في الأسواق العالمية.
تحتاج أنقرة إلى ما لا يقل عن 100 مليار دولار لتدارك أزمتها


أردوغان، الذي يقف اليوم في واحدة من أصعب لحظاته، حاول التنصّل من المسؤولية عن الأزمة، ملقياً باللوم على الأعداء الخارجيين والطابور الخامس الداخلي معاً. وهو بدا رازحاً تحت ضغوط كبيرة، إذ ألقى خطابات نارية متلاحقة باللغة التركية في ذمّ الحليف الأميركي (الذي قال إنه لم يراعِ تاريخاً طويلاً من «مساعدة» تركيا لأميركا «عند الضرورة» منذ حرب كوريا إلى أفغانستان)، لكنه كان شديد التهذيب في مقالته باللغة الإنكليزية التي وجّهها إلى الرأي العام الأميركي على صدر الصفحة الأولى من «نيويورك تايمز». على أن السلوك الأميركي العدائي ضد تركيا عبر العقوبات ورفع الرسوم الجمركية، والحملة الإعلامية التي يشنّها أردوغان وأنصاره ضد «خيانة» الولايات المتحدة لا يمكن فهمهما من دون النظر في الدوافع الاستراتيجية لتحولات القلوب بين واشنطن وأنقرة. وهي أمور تتعلق أساساً بالرغبة التركية الجامحة عند «الأردوغانيين» في استعادة أمجاد العثمانيين القدماء كامبراطورية مهيمنة على قلب العالم القديم. هذا الحلم بالطبع يتناقض مع واقع الدولة التركية التي تحوّلت منذ مئة عام تقريباً إلى نظام جمهوري برلماني علماني، على يد أتاتورك ورفاقه، يقوم على جزء محدود من أراضي الدولة العثمانية الزائلة، مفتقر بشدة إلى الموارد الطبيعية ذات القيمة الاستراتيجية. وهم لذلك ابتدعوا فكرة زيادة صلاحيات الرئاسة على حساب السلطات الأخرى، بينما توافقت تحليلاتهم على أن المستقبل المنشود لتركيا يقوم على أساس الاستفادة من موقعها الاستراتيجي العبقري كحلقة الوصل بين أهم منتجي الغاز العالمي (روسيا وإيران وقطر وأذربيجان) وأكبر مستهلكيه (الاتحاد الأوروبي).
منطقيّاً، فإن أوروبا التي تعاني طقساً بارداً معظم أوقات العام، وتعتمد بشكل متزايد على إمدادات الغاز الطبيعي في إبقاء ماكينة الحياة والإنتاج دائرة فيها، لن تجد حلاً أكفأ من الحصول على الغاز من روسيا عبر خط الأنابيب الأقصر جغرافياً والممتد بينهما عبر أوكرانيا. لكن ذلك يتسبب فعلياً في تعديل ميزان القوة لمصلحة موسكو، وهو ما لا تريده واشنطن، على رغم أنها عجزت دائماً عن إقناع الأوروبيين بالتحول إلى شراء غازها السائل بسبب تكلفة النقل العالية عبر الأطلسي. وهي لذلك دعمت اليمين الأوكراني للدخول في حالة عداء مع موسكو، تسببت عدة مرات بانقطاع إمدادات الغاز إلى القارة العجوز، على نحوٍ دفع الاتحاد الأوروبي، وبتشجيع أميركي مباشر، إلى إلزام دوله بالاحتفاظ الدائم بثلاثة مصادر متباينة لشراء الغاز. فقدان أوكرانيا دورها كدولة ممر استراتيجي للغاز العابر نحو أوروبا دفع المنتج الروسي إلى البحث عن ممرات بديلة، وهو ما رفع تلقائياً من أسهم تركيا لتتحول دولة مفتاحية في تجارة الغاز مع أوروبا، لا سيّما أنها يمكن أن توفر ــ نظرياً ــ لأوروبا بدائل مصادر الغاز التي تريدها من المنتجين في آسيا الوسطى والشرق الأوسط. الروس توافقوا مع الألمان واسكندنافيا على تزويد شمال أوروبا من خلال مسار يربط بين غرب روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق. وعلى رغم معارضة الولايات المتحدة وضغوطها على شركائها الأوروبيين، وفرض عقوبات ضد موسكو تستهدف منع انتقال تكنولوجيات الحفر، فإن العمل بوشر بالفعل في مد خط الأنابيب الشمالي هذا، ومن المفترض أن يبدأ التصدير عبره بحلول عام 2019.
إيران وقطر، منافستا روسيا الرئيسيتان في مجال الغاز، كانتا وضعتا، وبشكل منفصل، خططاً لمد أنابيب تصدير الغاز نحو الأسواق في جنوب أوروبا للاستفادة من خروج اللاعب الأوكراني. المشروع الإيراني كان يقضي بتمديد خط يمر عبر العراق وسوريا ولبنان، يخدم البلدان الثلاثة، ومن ثم نقل الغاز عبر المتوسط نحو اليونان وإيطاليا، وهو المشروع الذي وافق عليه الرئيس السوري بشار الأسد (وبالتأكيد بعد استمزاج حلفائه الروس)، ووُقّعت التفاهمات المكتوبة بشأنه في العام 2011. مشروع إيران اصطدم مباشرة بمشروع الخطّ القطري الذي كانت اقترحته الولايات المتحدة بشدة، ويقضي بمدّ خطوط الأنابيب عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا فجنوب أوروبا، وهو المشروع الذي عارضته سوريا وقتها.
صمود سوريا بعد سنوات من الحرب كان صفعة لفريق خط الغاز القطري. لكن أكبر الخاسرين كان من دون شك اللاعب التركي؛ إذ مع تلاشي الأمل ببناء ذلك الخط، كان لا بدّ إذاً لتحقيق رؤية تموضع تركيا مفتاحاً لتجارة الغاز الإقليمي من فتح الأبواب من جديد على موسكو وطهران، وهو ما يبرّر البرود الأميركي الزائد تجاه أنقرة. لدى تركيا الآن مشروعان متنافسان لنقل الغاز إلى جنوب أوروبا: أحدهما ينقله من أذربيجان وجورجيا إلى تركيا ومنها إلى اليونان وألبانيا وصربيا وأوكرانيا نحو إيطاليا، مع إمكان إدماج بلغاريا كنقطة نقل نحو أوروبا الوسطى (من المفترض أن يبدأ التصدير من خلاله نهاية العام الحالي)، بينما الخط الآخر يبدأ من روسيا وعبر البحر الأسود إلى تركيا ومنها إلى بلغاريا وجنوب أوروبا (وإذا استمر العمل به فسيكون جاهزاً في العام 2020). المشروعان، بشكل أو بآخر، يخدمان روسيا أساساً، إذ إن إنتاج أذربيجان غير كاف لتغطية الطلب الأوروبي، ولا بد من أن الطاقة الاستيعابية الزائدة لخطوط الأنابيب ستنتهي في يد شركة الغاز الروسية أو الإيرانية، بينما الخط الثاني يُلغي تماماً حاجة روسيا إلى التصدير عبر أوكرانيا.
لعبة الشطرنج المعقّدة هذه، والتي يبدو الجانب الروسي أقرب إلى الفوز بها، تتسبّب في قلق متزايد في واشنطن، التي لن تسمح بتراجع هيمنتها لمصلحة موسكو، وستضع حليفها التركي تحت ضغط عنيف لوقف تلك المشاريع. خضوع «الأردوغانيين» للضغوط الأميركية يعني تبخر «الحلم العثماني» نهائياً، وبالتالي فقدان هالة المجد القومي التي حاججوا بها لكسب تأييد المواطنين، بينما تحدّيهم للحليف التاريخي يعني تهديداً جدّياً للنظام. أنقرة في موقف صعب لا تحسد عليه، على تقاطعات التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، يهدّد «الحلم العثماني» بأن ينتهي كما يقول الخبير الاقتصادي الأميركي توم لي: «كطائر كناري جميل تاه في منجم فحم أسود»