دخلت إيران أجواء الاحتفال بالذكرى السنوية الأربعين لانتصار ثورتها، وسط موجة من التشاؤم تلفّ مستقبل علاقتها مع أوروبا، نتيجة تأخر القارة العجوز عن الوفاء بالتزاماتها التي تعهّدت فيها بتعويض طهران عن الخسائر التي لحقت بها جراء انسحاب الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي بداية شهر أيار/ مايو الماضي. ولأن السباق بين الصبر الإيراني والسعي الأوروبي الذي بدأ بعد القرار الأميركي وصل مداه (أكثر من ثمانية أشهر)، أشهرت طهران سيفها لتبارز به الوقت، الذي تعتقد أن أوروبا كانت تتلاعب به. فقد سرت شائعات تُفيد بأن طهران تنتظر احتفالات الذكرى السنوية الأربعين للثورة الإيرانية كي تردّ على المماطلة الأوروبية وتعلن قرار الانسحاب من الاتفاق.لكن تطورات الساعات الماضية التي أسفرت عن موقف أوروبي رسمي يقضي بتدشين آلية مصرفية للتعامل التجاري مع إيران، قد تكون أعفت طهران من أعباء مغادرة الاتفاق الذي كانت تلوّح به بوجه أوروبا. ففي وقت متأخر من الليلة الماضية، أصدر وزراء خارجية الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) بياناً مشتركاً أكدوا فيه إنشاء قناة تحمل اسم «إنستيكس»، بغرض دعم التجارة الأوروبية الشرعية مع إيران، مشدّدين على أن القطاعات المهمة للشعب الإيراني والمتعلقة بالأدوية والأجهزة الطبية والسلع الزراعية والغذائية هي التي ستستفيد في البداية من هذه الآلية، على أن تكون في المدى الطويل مفتوحة أمام الأطراف الأخرى للاستفادة منها. بدورها، استقبلت طهران الإعلان الأوروبي بترحاب حذر، مؤكدةً، وفق ما كتب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، أن الخطوة الأوروبية «خطوة أولى طال انتظارها»، وأن بلاده لا تزال مستعدة «للمشاركة البناءة» مع أوروبا بمساواة واحترام متبادلين.
ووفق المعلومات المتداولة، فإنّ الآلية التي أنشأتها الترويكا سُجلت في فرنسا، وسيرأسها المدير السابق لـ«كومرتس بنك»، الألماني بير فيشر، وهذا ما يتقاطع مع توقعات سابقة لصحيفتَي «إيران» الحكومية و«أبرار» الإصلاحية. وفي السياق ذاته، تمنّى مساعد وزير الخارجية الإيراني، والمسؤول عن التفاوض مع الأوروبيين، عباس عراقجي، أن تبدأ الآلية عملها دون نواقص، لكنّه ربط عمل تلك القناة بالاجتماعات التي سيعقدها الخبراء الإيرانيون مع نظرائهم الأوروبيين لتحديد كيفية العمل. وحول طبيعة المبادلات التجارية التي ستجري ضمن القناة المالية، أوضح عراقجي أن من المحتمل أن تكون بداية العمل بالسلع غير المشمولة بالحظر، لبلورة نموذج للتسلّم والتسديد، مشدّداً في الوقت ذاته على أن الهدف الأساسي هو الاستفادة من الآلية في المستقبل لتبادل السلع المشمولة بالحظر. وانطلاقاً من توضيحات عراقجي، يتوقع الكاتب الإيراني، سياوش فلاحبور، في حديث إلى «الأخبار»، أن يكون التطور المنشود مرتبطاً بموافقة طهران على الانضمام إلى المجموعة المالية «فاتف»، التي لا تزال في أروقة «مجمع تشخيص مصلحة النظام» المخول باتخاذ قرار نهائي بشأنها.
سرت شائعات عن أن طهران كانت تنتظر ذكرى الثورة لتردّ بالانسحاب من الاتفاق


من جهة أخرى، لا تزال واشنطن تبدي صمتاً رسمياً حيال الجهود الأوروبية المبذولة تجاه إيران، خرقه تصريح نقلته وكالة «رويترز» عن متحدث باسم السفارة الأميركية في ألمانيا، قال فيه إن بلاده لا تتوقع أن تؤثر الآلية بأي حال في حملة الرئيس دونالد ترامب القاضية بممارسة أقصى ضغط اقتصادي على طهران. ووجّه المتحدث، الذي رفض الإفصاح عن اسمه، تهديداً إلى الكيانات التي تشارك في أنشطة خاضعة للعقوبات، متوعداً إياها بعدم القدرة على العمل مع الشركات الأميركية. من هنا، يعتقد فلاحبور أن أوروبا لا تزال تعاني من عدم الاستقلال عن أميركا، وأنها كذلك لا تمتلك الإرادة لمواجهتها، ما يجعله يجزم بأن هذه الآلية المصرفية لن تعود على إيران بعوائد إيجابية.
يذكر أن طهران كانت تنتظر إعلان تلك الآلية المصرفية في بروكسل مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بالتزامن مع تفعيل حزمة العقوبات الأميركية الثانية، لكن حجم التناقض في المصالح المشتركة بين أميركا وبعض الدول الأوروبية أسهم، إلى جانب العمليات الأمنية التي حدثت في أوروبا واتُّهمت بها إيران، في تأخير ذلك الإعلان. وفي الإطار ذاته، أرجع البرلماني الإيراني السابق، نوذر شفيعي، جزءاً من مسؤولية تأخر الآلية المصرفية إلى العراقيل التي تضعها أميركا في طريق تدشين تلك الآلية، وأشار شفيعي في مقال له في صحيفة «آرمان إمروز» إلى أن واشنطن لم تكن تتوقع أن تكون أوروبا جادة في مسعاها، لأنها كانت تتصور أن بروكسل ستبقى تماطل في التنفيذ.
وعلى رغم أن إعلان الآلية كان من قِبَل الترويكا الأوروبية، وليس من قبل بروكسل، فإن وزيرة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، لم تتأخر عن مباركة الخطوة، مؤكدةً أن الاتحاد يقف بنحو كامل داعماً أساسياً للاتفاقية، لسبب بسيط، هو أنه يرى أن الاتفاق يحقق أهدافه، مستدلة على ذلك بتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تؤكد التزام إيران بتعهداتها. وكانت وكالة «فرانس برس» قد أكدت أن الكيان الجديد سيُصدّق عليه الاتحاد الأوروبي، وأن هذا التصديق سيأتي في إطار نص حول التزام إيران الاتفاق النووي، مبيّنة ــ نقلاً عن مصادرها ــ أن هذا النص صدّق عليه ممثلو الدول الـ28 الأعضاء في الاتحاد يوم الأربعاء خلال لقاء جمعهم في بروكسل.
هذه التطورات جاءت بعدما أعلنت إيران وسويسرا، في وقت سابق من الأسبوع الماضي، تشكيل آلية مالية مصرفية لتسهيل التعاملات التجارية والمصرفية الإيرانية. وجاء التقدم في الخطوات الأوروبية تجاه طهران مترافقاً مع تصريحات أدلى بها رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، أوضح فيها أن الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية لا تستند إلى تطوير «مدى الصواريخ» التي تملكها طهران إلى أكثر مما هي عليه اليوم، وهذا ما بدا لدى البعض على أنه طمأنة إيرانية للأوروبيين الذين يظهرون قلقهم الدائم من برنامج إيران الصاروخي. لكن سياوش فلاحبور لا يرى أي علاقة بين هذين الأمرين، لأن إيران وفقاً لما يتصوره، تتعامل بطريقة مختلفة تماماً في ما يخص قضاياها الدفاعية، ولا يستبعد كذلك أن تفرض أوروبا عقوبات جديدة على إيران بسبب أنشطتها الصاروخية.