جميع المعطيات المتوفّرة حتى اللحظة تؤشّر إلى أن مُنفّذي الهجمات المتتالية الأخيرة في فرنسا «ذئاب منفردة»، بحسب التعبير المستخدَم من قِبَل الأجهزة الأمنية الغربية وأبواقها من خبراء متلفزين. أحد الأصدقاء، خلال نقاش حول هذه الهجمات، أشار إلى سمات تُميّزها عن سابقاتها، من بينها: كون مُنفّذيها لا يتحدّرون من أصول مهاجرة عربية أو أفريقية كما كان الحال في هجمات سابقة (المنفذون باكستاني وشيشاني وتونسي وصل حديثاً إلى فرنسا)؛ وعدم مسارعة تنظيمات سلفية - جهادية إلى إعلان مسؤوليتها عنها وعدم استخدام مُنفّذيها أسلحة نارية بل أسلحة بيضاء، ما يؤدّي إلى استبعاد وقوف جهات منظّمة خلفها. وفي الواقع، فإن المعلومات المتوفّرة عن هجمات دامية أخرى وقعت في دول غربية، كالمذبحة التي ارتكبها العنصري الأبيض أنديرز بريفيك في النروج في عام 2011، أو تلك التي قام بها برينتون تارانت، العنصري الأبيض هو الآخر، في مسجد في نيوزيلاندا في عام 2019، على سبيل المثال لا الحصر، لم تُظهر تورّطاً مباشراً لمنظّمات يمينية متطرّفة أو لأجهزة أمنية فيها.

هذا الأمر ليس تفصيلاً بلا معنى، بل مؤشّر إلى تحوّلات خطيرة في المشهد الدولي، ناجمة عن ديناميات تعتمل في قاع المجتمعات وتطفو فجأة على سطحها، عبر استخدام العنف المشهدي كرافعة. لا شكّ في أن جميع المنفّذين من أنصار فكر متطرّف، أكان عنصرياً أبيض من جهة، أو تكفيرياً من جهة أخرى. لكن قدرة هذا الفكر على أن يصبح دافعاً إلى إقدام أفراد على القتل هي التي يُفترض أن تُحفّز على السؤال حول السياقات العامة السياسية والاجتماعية والفكرية التي تجعلها ممكنة، وعدم الاكتفاء بفرضيات أمنية لا تستند إلى وقائع. عاملان بنيويان يُفسّران التطوّرات المشار إليها: التراجع المستمرّ في قدرة الدول، القوية منها، والهشّة بطبيعة الحال، على السيطرة والتحكّم بالمجتمعات ودينامياتها، في عالم يعود «قانون الغاب» ليسوده بفعل سياسات الحرب الدائمة وآليات عمل الرأسمالية المتوحّشة المتفلّتة من أيّ ضوابط، مع تداعياتها المدمّرة اجتماعياً؛ وقناعة قطاعات اجتماعية متزايدة، فقدت الأمل بمستقبل أفضل، باللجوء إلى العنف كفعل انتقامي وتطهّري يزعزع مجرى الأحداث ويؤجّج التناقضات والنزاعات.
الوظيفة الأولى للدولة الحديثة، منذ نشأتها، بحسب كلاسيكيات الفكر السياسي، كانت وقف «حرب الجميع ضدّ الجميع»، أو ما سُمّي «قانون الغاب»، داخل حدودها، وبسط سيطرتها وسيادة قوانينها، مهما كانت طبيعة هذه القوانين، لحماية أمن سكّانها وممتلكاتهم في مقابل ضمان ولائهم لها. «قانون الغاب» بقي القاعدة خارج حدودها، خاصة في الفضاءات المستباحة في جنوب العالم منذ بداية الظاهرة الاستعمارية، وهي أساساً «عنف غاشم» وفقاً لفرانز فانون في كتابه المرجعي «مُعذّبو الأرض»، حيث يُباح العدوان والاحتلال والقتل الواسع النطاق ونهب الثروات. مَيّز «الحضارة» عن «الهمجية» حدٌّ فاصل بين فضاءات يسودها «حكم القانون»، وأخرى تُساس بحدّ السيف. وعلى رغم حقبة الاستقلالات، التي أتت كخاتمة لمعارك تحرّر وطني طويلة، خلال القرن العشرين، فإن سياسات الحرب المباشرة أو غير المباشرة، وأخيراً «الهجينة»، المعتمَدة من قِبَل الغرب بقيادة الولايات المتحدة، بهدف السيطرة على الموارد والمصائر في العديد من بلدان الجنوب، لم تتوقّف، بل تصاعدت في العقود الثلاثة الماضية. إضافة إلى ذلك، فإن النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، الذي تَأسّس لخدمة مصالح الغرب المهيمن والنخب الحاكمة في الكثير من بلدان الجنوب المستقلّة، أدّى، نتيجةً للتبادل اللامتكافئ وسياسات التصحيح الهيكلي المفروضة من المؤسّسات الاقتصادية الدولية، إلى دمار اقتصادياتها، ونكب السواد الأعظم من مجتمعاتها، والاضمحلال المتسارع لدولها التي باتت أشبه بهياكل فارغة. عطفاً على ما تقدّم، فإن الخيارات النيوليبرالية التي أخذت بها غالبية الحكومات في دول الغرب قد أفضت بدورها إلى تعمّق الفوارق الاجتماعية، وإلى إفقار وتهميش كتل متزايدة من شعوبها إلى درجة أن البعض بدأ يتحدّث منذ أكثر من عقدين عن «نموّ جنوب في الشمال».
غير أن المستجدّ في المشهد الدولي، هو تراجع قدرة القوى الغربية على تثبيت سيطرتها خارج حدودها أولاً، بفعل المقاومة الضارية التي تُبديها شعوب في الجنوب في مواجهتها، وتغيّرات في موازين القوى العالمية متّصلة بصعود دور منافسين غير غربيين لها؛ وبقدر أقلّ داخل حدودها ثانياً، بفعل اتّساع أعداد المهمّشين والمقصيّين، الناقمين على سياساتها. وقد ساهمت العولمة، وما قادت إليه من محو نسبي للحدود والحواجز بين «داخل» و«خارج»، إلى ضمور متزايد لهذه القدرة على السيطرة. هل يمكن في زمن العولمة وثورة المعلومات والاتصالات حصر أيّ صراع في الخارج، ومنع تسلّله وتأثيره في «الداخل»، في ظلّ تحوّل الشبكة العنكبوتية إلى ساحة دعاية وتعبئة ونزاع؟ الخراب المقيم الذي عَمّمته السياسات المشار إليها سابقاً تسبّب، في ما تسبّب به، خاصة في البلدان التي دُمّرت دولها، بنموّ تنظيمات متطرّفة يعتمد أتباعها الحرب كنمط حياة، بعد أن انعدمت أمام غالبيتهم أبسط مقوّمات البقاء. وفي بلدان الغرب، فإن الاعتقاد المنتشر بين كتل المهمّشين بفساد نخبهم المعولمة وتقديمها لمصالحها على حساب حقوقهم الدنيا كمواطنين، يُسهّل انجذاب جزء منهم نحو تيارات العنصرية البيضاء المطالِبة بالعودة إلى الجماعة العضوية «الأصلية» وطرد المهاجرين والمختلفين، للحفاظ على نقاء هويتها وحماية مصالحها وثرواتها. «قانون الغاب»، الذي حاول البعض حصره خارج حدود العالم «المتحضّر»، أضحى، على الأقلّ على مستوى اعتقادات وتصوّرات أوساط اجتماعية وازنة، واقعاً يحكم مواقفها وسلوكها حيال «الآخرين». يتشارك العنصريون البيض والتكفيريون مثل هذا الاعتقاد، ويترجم أشدُّهم تطرّفاً هذه القناعات إلى أفعال.
قناعة ثانية يتشاركها الطرفان، وهي افتراض إمكانية التأثير في واقع متأزّم أصلاً، وتأجيج النزاعات الدائرة فيه، ودفعها نحو الاحتدام خدمة لـ«قضيتهم»، عبر القيام بعمليات مشهدية، دموية بالضرورة، تُشبع رغبتهم في الانتقام وتُشكّل نموذجاً يُحتذى بالنسبة إلى «إخوانهم». وفي هذا السياق، فإن جميع الدعوات إلى الثأر، ومبادرة الحكومات إلى إعلان «الحرب على الإرهاب»، وما سيلازمها من عمليات تمييز وتنكيل بحق فئات معينة من السكّان من قِبَل الأجهزة الأمنية، ستساعد على إنضاج ظروف تسعير الصراع. رقعة التوحّش تتّسع، وتمتدّ تدريجياً لتشمل المراكز الرأسمالية الآمنة التي بقيت بمنأى عنه في زمن مضى وانقضى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا