لندن | تدخَّل الجيش في ميانمار في اللحظة الأخيرة عشية انعقاد البرلمان الجديد بداية الشهر الحالي؛ فاعتَقل السيّدة أونج سان سوكي، مستشارة الدولة أو ما يعادل منصب رئيس الوزراء، والوزراء البارزين، وقادة حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» الذي كان مرشّحوه اكتسحوا انتخابات عامّة أُجريت في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. بعد ذلك، تولّى نائب مستشارة الدولة، المُعيَّن من الجيش، الإعلان عن نقل جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى القائد الأعلى للجيش، الجنرال مين أونغ هلاينغ، وفرض حال الطوارئ لمدّة عام كامل، واعداً مواطنيه بإجراء انتخابات جديدة بعد التحقُّق من مزاعم تزوير واسع في الانتخابات الأخيرة. وإثر ذلك، سارعت الولايات المتحدة وقوى غربية إلى إدانة تدخّل الجيش، واعتباره «انقلاباً»، والتهديد بفرض المزيد من العقوبات على البلاد إذا لم يتمّ التراجع عنه، على الرغم من أن تحرّكاً من هذا النوع تحميه نصوص الدستور الذي كتبته سوكي بنفسها في 2008 لتضمن موافقة الجيش على مشاركتها في السلطة ولو بصفة محدودة ومقيّدة. اعتقد كثيرون أن هذا التعايش المغطّى دستوريّاً بين الطرفين، والمستمرّ منذ 2011، سيمنح البلاد فرصة للاستقرار، وسيتيح عودة الجيش تدريجيّاً إلى الثكنات وتنفيذ إصلاحات اقتصادية ليبراليّة الطابع ترضي الغرب وتربط اقتصاد البلاد بالهيمنة الرأسمالية العالمية. وفي الحقيقة، فإن سوكى بذلت غاية جهدها لحماية هذه الشراكة في «الانتقال المتدّرج للديموقراطية»، وخاطرت حتى بصورتها لدى داعميها الغربيين بعد أن دافعت عن قادة الجيش عندما حوكموا في لاهاي (2019) وساندت حملتهم الإجرامية ضدّ مسلمي الروهينغا، بل وأصدرت أوامر باعتقال صحافيين حاولوا فضح عنفهم المفرط بحق تلك الأقلّية، وقد نُقل عنها في محاضرة لها في سنغافورة أخيراً وصفها علاقتها بالعسكر بأنها «ليست سيئة أبداً"». لكن من الواضح أن كبار الضباط، وعلى رأسهم الجنرال لين أونغ هلاينغ، لم يثقوا يوماً بسوكي، واستخدموها كغطاء جنّبهم الإطاحة بحكمهم بـ«ثورة ملونّة» على نسق الموجة التي أطلقتها الولايات المتحدة في غير بلد حول العالم خلال العقد الماضي، فيما هم مستمرّون في حصد عوائد امتيازاتهم ومصالحهم الاقتصادية مَحميّين بالدستور الفاسد. ولذا، لمّا بدا أن الفوز الصريح لحزب سوكي في الانتخابات الأخيرة قد يعني منحها الشرعية المحلية والدولية لفرض تعديلات دستورية تمنحها صلاحيات أوسع، بما فيها تولّيها منصب رئيس للجمهورية بدلاً من منصب مستشار الدولة محدود الصلاحيات، كان لا بدّ للقيادة العسكرية من التحرّك أو المقامرة بفقدان كلّ شيء، وربّما التعرّض للمُلاحقة والعقاب وفقدان الامتيازات، لا سيّما في ظلّ بُغض الطبقة العاملة الشديد للعسكر.
تَجنّبت بكين إطلاق أيّ رسائل قد تُفهم تأييداً لطرف دون آخر


ويشير مراقبون للأوضاع في يانغون إلى أن سوكي ربّما تكون ارتكبت خطيئة تكتيكية في آذار/ مارس الماضي (2020)، عندما تسرّعت في تقديم اقتراح لإجراء تعديلات دستورية، رفضها الجيش حينها بفضل حقّ «الفيتو» المتوافَق عليه بين الطرفين في دستور 2011، فكشفت بذلك عن توجّهاتها المستقبلية قبل امتلاكها أوراق قوة كافية لم تحصل عليها سوى في الانتخابات العامّة الأخيرة، التي فشل فيها مرشّحون يدعمهم الجيش في الحصول على أكثر من 7% من مجموع الأصوات، مقابل 83% لحزب «الرابطة» الذي تقوده سوكي. لقد كانت مستشارة الدولة تزداد قوّة، ولذلك لم يبقَ لدى كبار الضبّاط من خيارات سوى أن يضعوا لها حدّاً قبل فوات الأوان.
تفجُّر صراع النخبة البرجوازية الميانمارية بدا محتّماً، إن لم يكن بسبب نتيجة الانتخابات كما حدث، فغالباً بسبب الفشل الذريع الذي أصيب به برنامج «الإصلاحات» الاقتصادية الليبرالية، والذي عوّل عليه الغرب في تشبيك اقتصاد يانغون بالمنظومة الرأسمالية العالمية، وتوسيع نفوذ برجوازية كمبرادورية تؤمن بالديموقراطية (على النسق الغربي) والتجارة الحرّة، موالية للغرب، وتناهض الصين. لكن هذه «الإصلاحات» بقيت شكلية دائماً، ولم تمسّ باحتكارات الضباط وعوائلهم للأنشطة الاقتصادية الرئيسة في البلاد (55 مليون نسمة)، بينما استمرّ توسُّع الفجوة الاقتصادية بين مَن يملكون ومَن لا يملكون، وتراجع مستوى أجور الطبقات العاملة، التي أرهقتها جائحة «كوفيد - 19»، في الوقت الذي لم يفعل فيه العسكر شيئاً طوال هيمنتهم على السلطة (منذ الاستقلال عام 1946) لإصلاح عواقب أكثر من قرن من الحكم الاستعماري البريطاني، وستة عقود لاحقة من الحرب الأهلية والديكتاتوريات الفاسدة والانقسامات العرقية والدينية التي طال أمدها في البلاد.
ويُمثّل استيلاء الجيش على السلطة في ميانمار معضلة لإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن. فمن ناحية، يبرّر هجوم الجنرالات على العملية الديموقراطية التي تدعمها واشنطن، ردّاً قوياً. ولذا، أصدرت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين بساكي، بياناً حثّت فيه «الجيش وجميع الأحزاب الأخرى على الالتزام بالأعراف الديمقراطية وسيادة القانون، وإطلاق سراح المحتجزين فوراً»، وهدّدت «باتخاذ إجراءات» ضدّ أولئك «الذين يعرقلون مسار التحوّل الديموقراطي في ميانمار». وكتب دانيال راسل، كبير دبلوماسيّي الرئيس الأسبق باراك أوباما في شرق آسيا في «غارديان» البريطانية أن «هذه نكسة كبيرة، ليس فقط للديموقراطية في ميانمار، بل أيضاً لمصالح الولايات المتحدة». لكن من الناحية الأخرى، فإن المسارعة إلى فرض عقوبات غربية إضافية على قادة الانقلاب، من غير المُرجَّح أن يقنعهم بتغيير سلوكهم، هم الذين لديهم سجلّ طويل في التغلّب بصبر على العقوبات الاقتصادية والحظر التجاري، حتى عندما أدت تدابير مماثلة إلى إفقار شعب بلادهم. كما أن مثل تلك العقوبات ستدفع بالجنرالات دفعاً إلى أحضان العملاق الصيني.
بكين، من جانبها، اعتبرت ما حدث في يانغون «شأناً داخلياً»، وتَجنّبت إطلاق أيّ رسائل قد تُفهم تأييداً لطرف دون آخر في صراع النخبة الميانمارية. وتتمتّع الصين، منذ سنوات طويلة، بعلاقات تجارية واقتصادية متينة مع الجيش وحزب «الرابطة»، لكن ذلك لا يمنع من أنها قد تكون المستفيد الوحيد جرّاء أيّ تصعيد محتمل بين ميانمار والغرب، لا سيّما لناحية المضي قُدُماً في تنفيذ مشروع الميناء العميق في ولاية راخين و«المنطقة الاقتصادية الخاصة» المرتبطة به. ومن شأن هذا الميناء أن يسمح للتجارة الصينية بتجاوز مضيق ملقا الذي تسيطر عليه البحرية الأميركية حول ماليزيا، الأمر الذي سيضعف كثيراً من النفوذ الأميركي في شرق آسيا.
داخلياً، يتوقّع المراقبون تجدُّد الصراع بين طرفَي النخبة البرجوازية في الشارع مجدّداً، فيما هناك غياب شبه تامّ لليسار الذي يعارض انقلاب العسكر، لكنه على رغم كلّ شيء ما زال يراهن على وجود توجّهات تقدميّة لدى حزب «الرابطة»، ويتجنّب العمل على تثوير جماهير الطبقة العاملة. ولذا، فإن الأمور في هذا البلد تتّجه حتماً إلى مزيد من التأزّم على المدى القصير، من دون آفاق واقعية لتغيير نوعيّ في تركيبة النظام الذي ما لبثت النخبة البرجوازية المهيمنة تعيد إنتاجه مرّة بعد مرّة.