في الثامن من تموز الماضي، أحاط الرئيس جو بايدن، الشعب الأميركي بتطوّرات انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. «لن يكون هناك أيّ ظرف من الظروف، حيث ترون أشخاصاً يُرفعون من على سطح سفارة الولايات المتحدة في أفغانستان... احتمال أن تجتاح طالبان كلّ شيء أمر مستبعد للغاية»، قال يومها. ولكن ما هي إلّا بضعة أسابيع، حتّى باتت «طالبان» تُسيطر على الدولة بأكملها، بينما تُنازع واشنطن لإخراج موظّفي سفارتها المتبقّين، إلى جانب مترجميها الفوريين، من كابول.في اجتماعات عُقدت، في الربيع، بشأن الانسحاب الأميركي المقبل، أخبر بايدن مساعديه أن من الضروري تجنّب المشهد الذي أسفر عن الصور الأيقونية للأميركيين والفيتناميين، وهم يصعدون سلّماً إلى طائرة «هليكوبتر» على سطحٍ بالقرب من السفارة الأميركية في سايغون، عندما تمّ إخلاؤها بشكل محموم في عام 1975. ولكن يوم الأحد، أثارت المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي لبعض الصور المقارِنة بين حادثة عام 1975، وبين طائرة هليكوبتر من طراز «شينوك» تحلّق فوق السفارة الأميركية في كابول، استياءً كبيراً وُجّه نحو الإدارة الأميركية الحالية. «من الواضح أن هذه ليست سايغون»، قال وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، في مقابلة على قناة «آي بي سي»، في محاولة للتخفيف من وطأة الهزيمة الأميركية، من دون أن يتمكّن من تدعيم تصريحه هذا بحججٍ قادرة على الصمود أمام التحدّي الذي شكّلته الحسابات الخاطئة والمتكرّرة في عملية صنع السياسة الخارجية، وكذلك الاستراتيجية العسكرية الأميركية، وقدرات الاستخبارات.
وبالتوازي، جُنّد مسؤولو الإدارة لإلقاء التبريرات، في كلّ الاتّجاهات، تارةً عبر إلقاء اللوم على اتفاق دونالد ترامب مع «طالبان»، وطوراً من خلال اتّهام القوّات الأفغانية بعدم الرغبة في القتال. بيد أن كارثة الهزيمة التي مُنيت بها الولايات المتحدة، والتراجع الفوضوي في أفغانستان، كشفا ضعف التقييم والإلمام اللذين كان من المتوقّع أن تتميّز بهما مختلف المؤسّسات الأميركية المعنيّة بالشأن الأفغاني. وعلى الرغم من أن هناك العديد من التداعيات التي ستستمرّ لفترة طويلة، بعد الانسحاب الأميركي، فقد ظهرت مباشرة نتائج، بدا من الواضح أنها ليست في مصلحة إدارة بايدن، على المدى القريب.
سيسعى الجمهوريون إلى تحويل الانتخابات النصفية إلى استفتاء على مَن خسر أفغانستان


أولاً، طال التشكيك حُكم بايدن كقائد أعلى للقوات المسلّحة، ولا سيّما بعدما كان قد أكد أن انتصار «طالبان» «ليس حتمياً»، وأن القوات الأفغانية قادرة على الدفاع عن نفسها. فلم تلبث هذه القوات أن تبخّرت، ومعها الشرطة الأفغانية، التي أنفقت الولايات المتحدة المليارات على بنائها لمحاربة «طالبان».
ثانياً، قدّرت تقييمات الاستخبارات الأميركية، في البداية، أن قوات الأمن الأفغانية يمكن أن تمنع هجمات «طالبان» ضدّ المراكز السكّانية الرئيسية، مثل كابول، لمدّة عام أو ربما أكثر. ثمّ خفّضت الجدول الزمني، بشكل كبير، ليصل، خلال هذا الشهر إلى 30 يوماً أو أقل، وفقاً لما نقله الإعلام الأميركي عن مسؤولين أميركيين. مع ذلك، لم يتطلّب بسط «طالبان» سيطرتها، أكثر من عشرة أيام. وبناءً عليه، سيخضع سجلّ أجهزة الاستخبارات الأميركية، وخصوصاً وكالة الاستخبارات المركزية، بقيادة وليام بيرنز، للتدقيق والتمحيص. وراح العديد من المحلّلين يتساءلون عن صدقية تقديراتها بشأن الهجمات الإرهابية المحتملة ضدّ أميركا، والتي قد تنطلق من أفغانستان، وخصوصاً أنها كانت كانت قد استبعدت احتمالاً كهذا.
ثالثاً، على الصعيد الدولي، سيثير خروج الولايات المتحدة الفوضوي من أفغانستان الشكوك بشأن صمود واشنطن كحليف. وبعد إعلان أن «أميركا عادت»، في أوّل رحلة خارجية له إلى أوروبا في وقت سابق من هذا الصيف، بات من الواضح أن دعوات الرئيس الأميركي لإنشاء حلف من «الدول الديموقراطية» في وجه «الدول المستبدّة»، ستتقوّض بسبب قراره التخلّي عن «حكومة ديموقراطية» هشّة في أفغانستان. أكثر من ذلك، ستجد واشنطن صعوبة في حشد حلفائها للعمل بشكل متضافر مرّة أخرى، بحسب ما ترى روبن رايت، في مجلّة «ذي نيويوركر»، معتبرة في الوقت ذاته أن «الولايات المتحدة لا تزال القوة المهيمنة في الغرب، ولكن بشكل افتراضي إلى حدّ كبير».

مستقبل رئاسة بايدن
في أثناء كلّ ذلك، بدأ خصوم بايدن، السياسيون والجيوسياسيون، باستغلال أخطائه. وبالرغم من أنه كان يفعل، بالضبط، ما أراده معظم الأميركيين، إلّا أن الفشل في التقديرات، وفي الوفاء بالتزامات الولايات المتحدة، في الأيام الأخيرة، من شأنه أن يعطي الجمهوريين مادة دسمة يخوضون على أساسها الانتخابات النصفية، في عام 2022. سيسعى هؤلاء، مثل زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل، إلى تحويل هذه الانتخابات إلى استفتاء على مَن خسر أفغانستان. وهو بالفعل، قد بدأ بذلك، عندما أكّد أن «الواقع كان واضحاً للجميع باستثناء إدارة بايدن»، متّهماً إيّاها بالجبن والضعف أمام «طالبان»، والاكتفاء بالتغريدات. ماكونيل استغلّ الوضع، ليلعب على أحد أكثر الأوتار حساسية، معتبراً أن «نصر طالبان» قد يكون أسوأ من سقوط مدينة سايغون الفيتنامية في يد الشيوعيين.
على الجهة ذاتها، سخِر وزير الخارجية السابق، مايك بومبيو، خلال ظهور له على شبكة «فوكس نيوز»، ممّا اعتبره «اللوم المثير للشفقة»، و»القيادة الأميركية الضعيفة». كما أصدر دونالد ترامب بياناً يبرّئ فيه نفسه من المسؤولية، على رغم أنه هو مَن أبرم الصفقة مع «طالبان» وحدّد موعد الانسحاب، في عام 2021. وفيما طالب بايدن بالاستقالة، قال: «لقد أجريت شخصياً مناقشات مع كبار قادة طالبان، حيث فهموا أن ما يفعلونه الآن لن يكون مقبولاً». وأضاف: «كان يمكن أن يكون انسحاباً مختلفاً كثيراً وأكثر نجاحاً، وقد فهمت طالبان ذلك أفضل من أيّ أحد آخر».
من جهة أخرى، يبدو أن انسحاب بايدن السريع من أفغانستان أثار امتعاض العديد من الديموقراطيين في الكونغرس، فقد طالبت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، الإدارة بتقديم إحاطة أمام المجلس، بشأن الوضع في أفغانستان، بعد عودة المجلس للانعقاد في 23 من الشهر الجاري. كذلك، أعرب السيناتور بوب مينينديز، عن احترامه لبايدن، لكنه أشار إلى اختلافه الشديد مع خطّة الانسحاب. «هو لا يريد خوض حرب لا نهاية لها، وأنا أفهم ذلك»، قال مينينديز، مضيفاً: «لكنّني اعتقدت دائماً بأن الطوارئ كانت ستوقف الانسحاب... على الرئيس أن يفكّر في ما إذا كان ما يحدث هو ما تصوّره».