ضعْف إدارة بايدن الداخلي يمنعها من العودة إلى الاتفاق النووي
واشنطن أعجز عن مواجهة بكين وموسكو في الآن نفسه
التحالف مع السعودية يستند إلى مصالح مشتركة ضخمة

عندما وصل جو بايدن إلى سُدّة الرئاسة، ساد اعتقاد واسع بأن سياساته ستُمثّل قطيعة مع تلك التي اعتمدها سلفه على النطاق الدولي، وكذلك في منطقتنا. وعلى الرغم من أن التحدّي الصيني شكّل هاجساً مشتركاً للإدارتَين، السابقة واللاحقة، فإن سُبل مواجهته المقترحة من قِبَل الرئيس الجديد وفريقه، وفي مقدّمتها تعزيز العلاقات مع الحلفاء وتخفيض التوتّرات في الشرق الأوسط للتفرّغ له، كانت من أبرز عناصر الاختلاف بينهما. بعد مُضيّ حوالي السنة، يتّضح أن عوامل الاستمرارية في السياسة الأميركية حيال منطقتنا تحديداً، أقوى حتى الآن من العوامل المُحفّزة على تغييرها. الدكتور رشيد الخالدي يرى، في مقابلة مع "الأخبار"، أن عجز إدارة بايدن عن معالجة المشكلات الاقتصادية - الاجتماعية والسياسية الداخلية، والضغوط التي تتعرّض لها من قِبَل ائتلاف من القوى اليمينية الصاعدة ومن أنصار إسرائيل، يحول دون اتّخاذها قراراً جريئاً كالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، على رغم انسجامه مع استراتيجيتها العامّة المُعلَنة. وهو يَعتبر أن مُضيّ واشنطن في سياسات الغطرسة، سيصطدم بتحوّلات موازين القوى الدولية، نتيجة للقدرات العسكرية المستجدّة لروسيا والصين. للخالدي، الحائز "كرسيّ إدوارد سعيد للدراسات العربية المعاصرة" في جامعة كولومبيا، ومدير "مجلّة الدراسات الفلسطينية" في الولايات المتحدة، مجموعة من الكتب المرجعية عن القضية الفلسطينية والسياسة الأميركية، وآخرها "حرب المئة عام على فلسطين. الاستعمار الاستيطاني والمقاومة".


عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران، كانت من بين أبرز وعود جو بايدن وفريقه، قَبل الانتخابات الرئاسية الأميركية وبَعدها. أُدرجت هذه العودة ضمن استراتيجية أميركية جديدة تسعى لتخفيض التوتر في الشرق الأوسط، للتركيز على أولوية مواجهة صعود القوّة الصينية. لكن موقف إدارة بايدن سرعان ما تَغيّر، واتّجه نحو التشدّد، لدى بدء مسار التفاوض مع طهران، والذي شهد حتى الآن سبع جولات من المباحثات، من دون النجاح في التوصّل إلى حلّ. يرى المفكر الفلسطيني، رشيد الخالدي، أنه "لتفسير مواقف إدارة بايدن، ينبغي النظر إلى وضعها في الداخل الأميركي. فبَعد أقلّ من عام من وصولها إلى السلطة، من الواضح أن رئيسها ضعيف جدّاً في مجالَي السياسة الداخلية والخارجية. تَوقّع الكثيرون تَغيّراً كبيراً في مقاربة الإدارة للملفّ النووي الإيراني، والتزامها مجدّداً بموجبات اتفاقية 2015، لكن الذي اتّضح هو أمر مغاير تماماً، وهو مطالبتها في الحقيقة باتفاق جديد، من دون رفع الكثير من العقوبات عن إيران.

خيّبت هذه الإدارة آمال الذين راهنوا على إمكانية اعتمادها سياسات عقلانية معتدلة (من الويب)

ضعْف الإدارة، وضغوط اليمين المتطرّف الأميركي والإسرائيلي عليها، عاملان حاسمان لفهم الانقلاب الذي طرأ على مواقفها. إسرائيل تمارس نوعاً من الابتزاز حيال الإدارة، مفاده أنها ستبادر إلى القيام بعمل عسكري ضدّ إيران في حال عدم التزام المفاوِضين الأميركيين بالخطوط الحمر الإسرائيلية، البالغة القسوة، تجاه البرنامج النووي الإيراني. وكانت إدارة بايدن قد رفضت، أخيراً، منْح إسرائيل طائرات قادرة على تزويد مقاتلاتها وقاذفاتها بالوقود جوّاً، ممّا يصعّب قيامها بقصف منشآت في إيران، ومن ثمّ العودة إلى قواعدها. قد يكون هذا الرفض شكلاً من أشكال الردّ على الابتزاز الإسرائيلي، لكنّنا نشهد في العملية التفاوضية مع طهران، خضوعاً أميركياً متزايداً له، نتيجة لوجود صقور في الإدارة، والضغوط التي تتعرّض لها والتي أشرنا إليها".
تتناقض هذه السياسة، إلى حدّ ما، مع التحليلات التي افتَرضت وجود إجماع بين النُخب الأميركية على أن التورّط في نزاعات الشرق الأوسط أبعدَ واشنطن عن أولويات استراتيجية حيوية بالنسبة لها، وهي التصدّي لمنافِسيها في بكين وموسكو. بحسب الخالدي، فإن الولايات المتحدة، من خلال التصلّب ضدّ إيران، "تتورّط في نزاع جانبي معها خدمة لإسرائيل، على الرغم من عدم تطابق المصالح الأميركية مع تلك الإسرائيلية في هذا البلد. التورّط الأميركي في الماضي في النزاعات المحلية، وهي أشبه بالمتاهات من منظور مصالحها الاستراتيجية الكبرى، منَعها من الاهتمام بالتحدّيَين الحيويَين الصيني والروسي. الأميركيون كانوا يتجاهلون روسيا، ويعتبرونها قوة من الدرجة الثانية حتى انفجار الأزمة الأوكرانية الراهنة. طرْح فلاديمير بوتين الأخير عن ضرورة توقيع معاهدتَين بين موسكو وواشنطن من جهة، وبين الأولى والناتو من جهة أخرى، لضمان الأمن والاستقرار في أوروبا، أظهر للإدارة الأميركية أن الغرق في الشرق الأوسط وغيره من الساحات الثانوية، منَعها ليس فقط من التفرّغ للصين، بل كذلك أنساها روسيا، التي ليست بالتأكيد قوّة من الدرجة الثانية بل الأولى، بخاصة بعد التفاهم الذي بات يرقى إلى ما يشبه التحالف بينها وبين الصين، والذي تجلّى خلال القمّة الأخيرة بين رئيسَي البلدين".
ولكن، ما الذي يمنع الإدارة الأميركية، والدولة العميقة، من مقاومة الضغوط التي تتعرّض لها، والتي تَحول دون اعتمادها سياسة خارجية تنسجم مع أولوياتها ومصالحها؟ "الضغوط الداخلية هي الأكثر فاعلية. الضغوط الإسرائيلية تزيد من أثر تلك الداخلية، التي يمارسها الجمهوريون. هؤلاء سيفوزون على الأغلب في الانتخابات النصفية في العام المقبل، وسيحصلون على المقاعد الخمسة اللازمة ليسيطروا على الكونغرس، وكذلك على المقعد الواحد الضروري للسيطرة على مجلس الشيوخ. قدرة الحزب الجمهوري على التأثير في السياسة الخارجية للإدارة، هائلة، لأن أيّ موقف سيُصوَّر على أنه تنازل تجاه إيران، سيتعرّض لانتقادات لاذعة ليس فقط من هذا الحزب، بل أيضاً من صقور الحزب الديموقراطي ومن أنصار إسرائيل. السياسة الخارجية تعكس إلى درجة كبيرة توازنات السياسة الداخلية. شعبيّة بايدن تراجعت إلى نسبة أقلّ من تلك الخاصة بدونالد ترامب، أي إلى أقلّ من 40%، بينما تعكس استطلاعات الرأي صعوداً لليمين في أوساط الرأي العام. اتخاذ خطوات جريئة في مجال السياسة الخارجية في مثل هذه الظروف، ستُصنَّف على أنها تنازلات، عمَل بغاية الصعوبة بالنسبة له. لو تمتّع الرئيس الأميركي بالشجاعة، كان سيتّفق مع إيران وينسحب من المنطقة. دُولها، كالسعودية والإمارات مثلاً، على استعداد لقبول هذه الوجهة، لأنها شرعت بالتفاوض مع إيران في الأشهر الماضية. التوصّل إلى تفاهم مع إيران هو لمصلحة الولايات المتحدة، لكن ضعف الرئيس الداخلي، وخوفه من عاصفة الانتقادات التي ستندلع ضدّه، هما عقبتان كبيرتان أمام مثل هذا التفاهم. أنا متشائم حيال إمكانية التوصّل إلى اتفاق جدّي وطويل الأمد مع إيران، إلّا إذا تَغيّرت الأوضاع الداخلية الأميركية، وشهدنا تراجعاً للجائحة، وتحسّناً للظروف الاقتصادية، ونجاحاً في إنجاز قسم من برنامج بايدن الانتخابي على الأقلّ. إذا ارتفعت معدّلات شعبيّته نتيجة لذلك، من الممكن عندها أن يفكّر باتفاق جدّي مع طهران".
شعبيّة بايدن تراجعت إلى نسبة أقلّ من تلك الخاصة بدونالد ترامب


الانسحاب الأميركي من أفغانستان، على الرغم من كونه مطلباً شعبياً لقي تأييداً واسعاً عابراً للانقسام الحزبي، ساهم في تدنّي صدقيّة الرئيس وإدارته في الداخل الأميركي، والسبب هو الطريقة المريعة والعشوائية التي تمّ بها: "الإدارة أمضت أكثر من شهرين تواجه هجوماً سياسياً من كلّ حدب وصوب تجاه هذا الانسحاب - الهزيمة. يَعتقد البعض أن التدهور في شعبيّة بايدن تسارَع بعده، وأضحى من شبه المستحيل في مثل هذا السياق المبادرة إلى انسحابات أخرى من دول في المنطقة كسوريا مثلاً، مع أن العقلاء في النُخبة الأميركية يُجمعون على ضرورة ذلك. وبعض مَن اعتقدناهم عقلاء، كجايك سوليفان رئيس مجلس الأمن القومي، اتّضح أنهم أقلّ اعتدالاً، ويقيمون اعتباراً كبيراً للأوضاع الداخلية عند تحديد مواقفهم من أيّ موضوع خارجي، خصوصاً إذا كان حسّاساً كالملفّ النووي الإيراني، حرصاً على تجنّب التعرّض للنقد العنيف. لقد خيّبت هذه الإدارة آمال الذين راهنوا على إمكانية اعتمادها سياسات عقلانية معتدلة مخالفة لتلك التي اتّبعتها إدارة ترامب".
لكن لسياسات التصعيد والمواجهة مع لاعبين دوليين وازنين كالصين وروسيا في الآن نفسه، أكلاف باهظة بالنسبة للولايات المتحدة: "هناك خلاف داخل الجيش الأميركي حول مدى قدرته على التصدّي لهجوم صيني على تايوان وروسي على أوكرانيا، بخاصة إذا حصلا في الوقت عينه. بوتين يريد إفهام الأميركيين بأن روسيا قوية وقادرة، على الأقلّ في جوارها، وحتى في أفغانستان والشرق الأوسط. في الواقع، لا وجود لإجابة سهلة على كيفية تعامل واشنطن مع هذَين التحدّيَين. إذا قرّرت الصين الضغط في موضوع تايوان، أو في بحر الصين الجنوبي، بالتزامن مع تصعيد روسي في أوكرانيا، كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع إمكانية حربَين على جبهتَين؟ برأيي، ليست لديها القدرة على التصدّي للطرفين، بخاصة إذا أخذنا في الاعتبار منظومات السلاح الحديثة، كالصواريخ الفرط صوتية التي بحوزتهما. الأمر نفسه ينطبق على إسرائيل في حال شنّت هجمات على المنشآت النووية الإيرانية. هي ستدفع ثمناً مهولاً من المفترض أن يحفّز أيّ سياسي عاقل على العدول عن مثل هذه المخطّطات. لكن كثيراً ما يتّخذ السياسيون قرارات تجافي المنطق والحدّ الأدنى من العقلانية".

لو تمتّع الرئيس الأميركي بالشجاعة، كان سيتّفق مع إيران وينسحب من المنطقة


حمَل وصول فريق بايدن إلى السلطة، حليفاً تاريخياً آخر للولايات المتحدة، أي السعودية، على التوجّس من احتمال تدهور العلاقات بين البلدين، ومباشرة واشنطن ضغوطاً على الرياض لوقف حربها على اليمن. التطوّرات التي شهدناها في الأشهر الماضية، وفقاً للخالدي، تؤشّر إلى أن عناصر الاستمرارية في هذه العلاقات هي الطاغية: "حجم المصالح المرتبطة بهذه العلاقات ضخم بكلّ ما للكلمة من معنى. نحن نتكلّم عن مصالح اقتصادية بالدرجة الأولى، كمصالح المجمّع الصناعي-العسكري، وتلك الخاصة بشركات النفط، أو الاستثمارات الخليجية الهائلة في العقارات في نيويورك وواشنطن وغيرها من مدن الغرب، وفي القطاع المصرفي، وكذلك عن مصالح شركات الصناعات المدنية كشركة بوينغ مثلاً. نحن أمام تكتّل لقوى اقتصادية ضخمة لها قدرة على الضغط على صانع القرار في واشنطن وحمْله على أخذ مصالحها في الاعتبار. قد لا تعود الحفاوة بين محمد بن سلمان والرئاسة الأميركية إلى سابق عهدها، ولكن عندما يتحدّث الأوّل عن خططه الاقتصادية المستقبلية، تهرع هذه الشركات إلى البيت الأبيض للتأكيد على ضرورة الحفاظ على حصّة معتبرة لها من العقود في السعودية، والحؤول دون استحواذ منافسين من بلدان أخرى عليها".