يعتقد علماء اجتماع السياسة أن الحديث عن يمين ويسار لم يعد بذي صلة في الشأن الفرنسي
ثمّة أسباب متعدّدة لهذا التردّي في تأييد الفرنسيين لليسار، لكنّ أغلبها مرتبط بشكل أو بآخر بمشاكل بنيوية ذاتية في اليسار ذاته. فهو منذ تخلّى عن جذريّته بداية من انتفاضة أيار 1968، وتموضَع سياسياً في دائرة الوسط، فقدَ تميّزه عن بقيّة الأحزاب الوسطيّة، بما فيها تلك الثريّة والمدعومة من الدولة العميقة، والأقدر على الاستفادة من قوّة الميديا الجماهيرية. ويقدّر الخبراء أن ماكرون اختطف في الانتخابات الأخيرة ما بين 8 إلى 10 نقاط مئوية من الجمهور اليساري المعتدل الذي كان يصوّت عادة للاشتراكيين، بعدما أصبحت سياسات هؤلاء الأخيرين أكثر يمينيّة من يمين الوسط. السبب الثاني يتعلّق بضعف التكوين النظري للقيادات اليسارية الجديدة، والعداوات الشخصية في ما بينهم، وتفتّت توجّهاتهم (يسار متشدّد، شيوعيون جدد، تروتسكيون، اشتراكيون وفوضويون و...)، على نحو فشلوا فيه في تشكيل أيّ جبهة موحّدة تخوض الانتخابات وراء مرشّح واحد، ناهيك عن القدرة على تقديم كتلة قادرة على الانخراط في جبهة وطنية لكلّ المتضررين من الأوضاع القائمة. حتى إن أبرز الزعماء اليساريين رفضوا قبل عدّة أسابيع إجراء تصويت إلكتروني لاختيار أحدهم ممثّلاً لجميع أطياف اليسار، بحيث يمكن إيصاله إلى الدورة الثانية. وقال جان لوك ميلينشون، من حزب «لا فرانس إنسوميز» اليساري المتشدّد، ويانيك جادوت، المرشّح الرسمي لحزب «الخضر»، وآن هيدالغو، مرشّحة «الحزب الاشتراكي»، إنهم سيتجاهلون نتيجة التصويت مهما كانت.
هذه العيوب البنيوية تفسّر إلى حدّ بعيد الجيولوجيا الاجتماعية والسياسية المتحوّلة لاتّجاهات التصويت في فرنسا، إذ لم تَعُد الطبقة العاملة التقليدية تمنح ثقتها تلقائيّاً لليسار. وفي انتخابات 2017، منح اثنان من كلّ خمسة عمّال أصواتهم لماريان لوبان وغيرها من ممثّلي اليمين المتطرّف الذي يقدّم نفسه كصوت للغاضبين ضدّ الأوضاع القائمة، فيما يسار الطبقة المتوسّطة والمتعلّمة في المدن مشغول بقضايا الهويّات الجنسية والتجاذبات الإيديولوجية والشِّلَليات، وليس مهتمّاً بالتضامن مع الطبقات العاملة أو الأطراف أو دعم مرشّح واحد قد يأتي من شِلّة أخرى. فهناك، على سبيل المثال، يسار فرنسي علماني بضراوة، لكنه قلق بالدرجة نفسها من الإسلام المتطرّف، فضلاً عن اليسار الفرنسي المناهض للإمبريالية والعنصرية، والذي يقاوم محاولات كبح الوجود الإسلامي في البلاد. وثمّة يسار مؤيّد للاتحاد الأوروبي، وآخر مناهض له. كما أن بعضهم مؤيّد للطاقة النووية، وبعضهم الآخر مناهض للأسلحة النووية. ويُضاف إلى ما تَقدّم أن هناك مرشّحين غامضين اختارهم منظّمو التصويت، على رغم أنهم لا يتمتّعون بتأييد واسع، ومنهم عالم بيئة دشّن حملته الانتخابية بالإضراب عن الطعام لمدّة عشرة أيام، ووزيرة عدل سابقة تدافع عن حقوق المثليّين. ويتحدّث ثلاثة من المرشّحين الأربعة الأوائل منهم عن تقليص القطاع الحكومي - الأمر الذي يتناقض مبدئياً مع كلّ ألوان الفكر اليساري -، في الوقت الذي تقول مارين لوبان - يمين متطرّف - إنها ستدعم توسيعه.
وفي ظلّ هذه الفسيفساء «القبائلية»، يعتقد علماء اجتماع السياسة أن الحديث عن يمين ويسار لم يعد بذي صلة في الشأن الفرنسي، وأنه من الأفضل النظر في فئات تتقاطع أو تتباعد ليس على أساس الطبقة الاجتماعية، بل على امتداد أرخبيل من الهويّات الثقافية والجهَوية والولاءات الشخصية. وهنا تكمن المفارقة الكبرى لليسار الفرنسي؛ فناخبوه الذين سيفشلون حتماً في إيصال أيّ مرشح يساريّ إلى الجولة الثانية (24 نيسان)، فإنهم في تلك الدورة يمكنهم أن يقرّروا النتيجة النهائية للانتخابات، عندما ينبغي لهم أن يختاروا بين مرشّح المنظومة ماكرون، ومرشّح من اليمين أو اليمين المتطرّف يصل إلى جولة الإعادة معه: فاليري بيري، مارين لوبان، أو (أقلّ احتمالاً) إريك زمور. يا لها من مهزلة إذاً!