تبدّت الملامح الأولى لمؤتمر السلام في جولة إقليمية لمبعوث الصين إلى القرن الأفريقي، شيويه بينغ، في نهاية آذار الماضي، شملت كينيا وإريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان وأوغندا والصومال، ثم وسّعت بكين دعواتها إلى المؤتمر، في مطلع حزيران، لتشمل السودان، في تطوّر لافت عزّز فكرة «القرن الأفريقي الكبير» في الدبلوماسية الصينية. وكشفت جولة بينغ عن رأي غالب لدى قادة هذه الدول لناحية السعي إلى توفير دور خارجي أكبر للتنمية في بلادهم، مع عدم ارتباط علاقات الشراكة بالشروط أو الإنذارات النهائية أو القسر، إلى جانب الرغبة المشتركة في جعل الإقليم مستقرّاً ومستداماً اقتصادياً. وعرضت أديس أبابا ونيروبي استضافة المؤتمر قبل الاستقرار على خيار الأولى، فيما أعلن المبعوث الصيني، في حينه، تقديم بلاده مساعدات غذائية طارئة إلى إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال بقيمة 6,3 ملايين دولار.وعلى رغم حرْص وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، على القيام، في كانون الثاني، بجولة «تنشيطية» للمؤتمر، فإنّ مستوى التمثيل الإقليمي فيه لم يرقَ إلى الطموحات، ولم يلبِّ فكرة «المظلّة الصينية» للسلام والتنمية في دول الإقليم. كما أنّه كشف حقيقة لافتة حول تعزيز الصلات الثنائية بين بكين وأديس أبابا، وتعويل الأولى على إثيوبيا التي تواجه أخطر الأزمات الأمنية والسياسية وأعقدها في الإقليم منذ نهاية الحرب الباردة، باعتبارها «دولة محورية».

آفاق «السلام الصيني»
يبدو جليّاً أنّ بكين تعيد إنتاج مفهومها التاريخي «السلام الصيني – Pax Sinica» بنقله على نحو كامل من أقاليم نفوذها التقليدية على غرار شرق آسيا وجنوبها ووسطها، إلى القرن الأفريقي المطلّ على أهم ممرّات التجارة العالمية، وحيث يتقاطع استراتيجياً نفوذ قوى دولية وإقليمية. وفيما يَتوقّع لها البعض أن تنجح في تكرار نموذجها في القرن الأفريقي، فإنّ مراقبين يلفتون إلى أنّ رعاية الصين للمؤتمر تكشف عن استعمالها للإقليم كـ«معمل لدبلوماسيّتها»، أو ما يوصف بالتدخل الناعم في الشؤون الداخلية للدول، وسط التطلّع إلى نقل المقاربة إلى أجزاء أخرى من أفريقيا. ويجسّد عقد المؤتمر، ظاهرياً على الأقلّ، تغيّراً لجهة موقفها القاضي بـ«عدم التدخّل» في صراعات خطيرة.
ويتمدّد «السلام الصيني» بقوّة في الإقليم الذي يُعدّ وجهة رئيسة للقروض الصينية ضمن مبادرة «الحزام والطريق» التي تبلغ كلفتها المتوقّعة تريليون دولار، فيما تساهم الشركات الصينية في تشييد جزء من «سدّ النهضة»، وهي تقوم حالياً بمدّ جسور اقتصادية مع إريتريا التي انضمّت بالفعل إلى المبادرة، ويُتوقّع أن تتلقّى قروضاً صينية مهمّة في الأشهر المقبلة لتطوير موانئها وشبكاتها للسكك الحديد. كما موّلت الصين مشروع السكك الحديد بين إثيوبيا وجيبوتي التي تستضيف أوّل قاعدة عسكرية صينية خارج الحدود، بقيمة 4,5 مليارات دولار (يتجاوز الرقم إجمالي الناتج المحلي لجيبوتي الذي بلغ 3,4 مليارات دولار في عام 2020)، إلى جانب مشروعات في البنى التحتية في كينيا والسودان. إلا أنّ هذا التمدُّد يتهدّده قصور خطاب بكين الدبلوماسي عن تلبية مخاوف دول عدّة في الإقليم، أبرزها الصومال والسودان، وبدرجة أقلّ كينيا التي شهدت علاقاتها التجارية مع بكين تراجعاً حادّاً في عامَي 2020 و2021 لمصلحة فاعلين آخرين، مِن مِثل اليابان والولايات المتحدة. وتدور المخاوف حول سياسات التدخل الصينية المرتقبة للملفات الأمنية والعسكرية والسياسية في الإقليم، وهو الأمر الذي يُتوقّع حدوثه أيضاً في ظلّ التغيير الصيني الأخير لأجندة «جيش التحرير الشعبي» خارج الحدود، وفتح نافذة لتدخّله عسكرياً في دول الإقليم، على خلفية مبرّرات متعدّدة.

انحسار في إثيوبيا... وجيبوتي
استجدّ تطوّر إيجابي في الملفّ الإثيوبي منتصف الشهر الحالي، في ظلّ التحضير للمؤتمر، وذلك بفضل تكوين الحكومة لجنة للتفاوض مع قوات إقليم تيغراي «ودراسة الشروط المسبقة وكيفية سَيْر المفاوضات» المتوقَّع عقْدها في العاصمة الكينية نيروبي، وأن تكون برئاسة نائب رئيس الوزراء ديميكي مكونن، وتسلّم تقريرها إلى آبي أحمد في غضون 15 يوماً على حد أقصى، فيما أكد رئيس جبهة تحرير تيغراي، دبريصيون جبرميكائيل، بعد ساعات فقط، استعداد حكومته للتفاوض «على سلام دائم».
ولكن في ظلّ نجاعةٍ ما للضغوط الدولية على نظام آبي أحمد منذ نهاية العام الماضي، فقد أصدرت الحكومة الصينية، منتصف الشهر الجاري، ما سمّته «إطاراً قانونياً جديداً للحماية العسكرية لمصالحها الخارجية»، يمنحها أساساً قانونياً داخلياً لنشر قوات «جيش التحرير الشعبي» خارج الصين لحماية مصالحها وأصولها في حالتَي العنف أو الحرب في دولة ما، أو المساعدة في حال وقوع كارثة طبيعية. وربّما يتقاطع هذا الإطار، مع تصوّر بكين لصيانة الأمن في القرن الأفريقي، ولا سيما في إثيوبيا وجيبوتي حيث تتركّز مصالح الصين الاقتصادية والعسكرية في الإقليم.
وحدّدت الصين بالفعل كلاً من إثيوبيا وجيبوتي وكينيا كفرص أولى للاستثمار، ولا سيما في سياق مبادرة «الحزام والطريق»، كما تنظر بكين إلى القرن الأفريقي اقتصادياً وتنموياً على أنه جزء من سلسلة استثمارات تمتدّ من البحر الأحمر وخليج عدن إلى أرجاء القارة الأفريقية. وحافظت الصين على مكانتها شريكاً تجارياً أوّلَ لإثيوبيا، على رغم التراجع على هذا الصعيد، فيما تظلّ أديس أبابا رأس جسر في برنامج توسّع الصين في العالم النامي، إذ تستضيف وحدها نحو 400 مشروع تشييد وتصنيع صيني بقيمة استثمارات تزيد على 4 مليارات دولار، وتحتلّ في المقابل المرتبة الثانية أفريقياً في قائمة الدول المدينة للصين (يستحقّ عليها ديون بقيمة 13,7 مليار دولار، وتسبقها أنغولا).
وتعمّق بكين باستمرار علاقات التعاون مع إثيوبيا، على غرار تعاونهما طبقاً لاتفاق الدفاع المشترك (2005). وبرز هذا التعاون في أزمة تيغراي الأخيرة وتعويل الجيش الإثيوبي، ذي التسليح الروسي والأوكراني في الأساس، على المعدّات العسكرية الصينية الصنع لتحقيق تفوق نوعي في الإقليم. وهذا ما حدا بآبي أحمد إلى وصْف الصين بأنها «الصديق الأكثر اعتمادية لإثيوبيا وشريكها الأكثر حميمية»، فيما برز موقف الصين الصلب إلى جانب حكومة آبي في مجلس الأمن، خاصة حين أعلن سفيرها لدى الأمم المتحدة، نهاية العام الماضي، أنّ الحل في تيغراي «لا يمكن أن يتحقّق إلّا من الداخل».

مجرّد استكشاف
وضعت بكين رؤية «تنموية» للقرن الأفريقي، تهدف إلى مساعدة دول الإقليم لتكون «بمنأى عن أيّ منافسة جيوسياسية بين الدول الكبرى، وأن تعالج على نحو مستقلّ مشكلات التنمية والأمن والحوكمة». وحظيت هذه الرؤية بتقدير الأطراف المعنيين، فأعلنوا الاستعداد للمساهمة فيها وتطبيقها عقب مناقشة خطط التنمية في المؤتمر. وفي حال تطبيق هذه الرؤية التنموية، ستعمل الصين، في الأشهر المقبلة، على ربْط محورَي السكك الحديد الرئيسيَّين في الإقليم أديس أبابا - جيبوتي وممباسا - نيروبي، بشبكة موسّعة من السكك الحديد الفرعية للإسراع في التنمية في الإقليم على امتداد سواحل البحر الأحمر خصوصاً، بما في ذلك إريتريا، مع ما يعنيه ذلك من تهديد للمشروعات الإماراتية المرتقبة هناك، في تكرار لأزمة ميناء جيبوتي.
ولكن ثمة مؤشرات إلى كون «المؤتمر» مجرّد استكشاف لآفاق الدور الصيني في القرن الأفريقي، ومدى استجابة دول الإقليم، بارتباطاتها الخارجية، لهذا الدور المرتقب. وجدير بالإشارة أنّه بالتزامن مع ترتيبات بكين للمؤتمر، تسارعت التطوّرات في القرن الأفريقي، إذ شهدت الأسابيع الأخيرة ما وُصف بالعودة الأميركية إلى الصومال، وإعلان واشنطن إعادة نشْر قوات أميركية في هذه الدولة بعد أيام قليلة من إعلان خسارة الرئيس السابق محمد عبدالله فرماجو في الانتخابات الرئاسية، لمصلحة الرئيس الأسبق محمود شيخ الذي زار أبو ظبي قبل أيام، في مشهد كشف بدوره عن صعوبات تواجهها الصين لتحقيق اختراق عاجل في النظام الإقليمي، ولفرض رؤيتها، على رغم الجهود الدعائية الكبيرة طوال الأشهر الماضية. ويُرجَّح أن تحاول مجدّداً عبر مؤتمر ثان للسلام والتنمية.