تُعدّ الذكرى الـ99 لمعاهدة لوزان، هذا العام، محوريّة، كونها تسبق بقليل معركة رئاسة الجمهورية التركية المرتقبة بعد سنة، فيما تشكّل مناسبةً لتحفيز الكثير من المعنيّين على إعادة تقييم سياساتهم تجاه تركيا التي لا يزال رئيسها، رجب طيب إردوغان، يسعى وراء «استعادة» حدود «الميثاق الملّي»، الذي تخلّى عنه أتاتورك. أمّا الأكراد - وهم من بين أكثر المتضرّرين من المعاهدة كونها جاءت لتنسف اتفاقية سيفر التي منحتهم حُكماً ذاتياً في بعض مناطق جنوب شرق الأناضول - فما زالوا ينتظرون «رفع الظلم» عنهم بعد نحو 100 عام، والخلاص من «لوزان» مرّة واحدة وإلى الأبد
أتمَّت معاهدة لوزان 99 عاماً من عمرها (24 تموز 1923)، لتبدأ مئويّتها. وهي المعاهدة التي وُقِّعت بين تركيا من جهة، وسبع دول منتصرة في الحرب العالمية الأولى (إنكلترا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا مجتمعة) من جهة أخرى، ورسمت غالبيّة الحدود الحالية لتركيا، وأطاحت بتطلّعات الكثير من القوى الأخرى، ولا سيما الأرمن والأكراد. وستكون ذكرى هذا العام محوريّة، على الأقلّ من زاويتَين: أولاً، تزامنها مع معركة رئاسة الجمهورية التركية التي ستجري في حزيران المقبل؛ وتشكيلها مناسبةً لتحفيز الكثير من الدول والقوى المعنيّة على إعادة تقييم سياساتها تجاه تركيا، خصوصاً بعد التشكيك واللغط اللذين أثارهما رئيسها رجب طيب إردوغان، بخصوص المعاهدة في صيف عام 2016، ولا يزال. ولعلّ الأكثر إحساساً بالمرارة هم أكراد تركيا والمنطقة الذين نظّموا، في هذه المناسبة، وقفة احتجاجية في مدينة لوزان نفسها، أوّل من أمس، للمطالبة برفع الظلم اللاحق بهم، والعودة إلى تطبيق «اتفاقية سيفر» التي وُقِّعت في الـ10 من آب 1920، من جانب موفد السلطان العثماني محمد السادس، لكنّ القوميين الأتراك رفضوها واعتبروها مجحفة في حقّ تركيا، إذ إنها «تُنهيها كوطن». وأعطت الاتفاقية المذكورة الأقليّات حقوقاً مهمّة، مِن مِثل إقامة دولة أرمنية مستقلّة في شرق الأناضول يَرسم حدودها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، وإقامة حُكم ذاتي للأكراد في بعض مناطق جنوب شرق الأناضول المتاخمة لسوريا. وفي ظلّ اللّبس الذي أثارته الاتفاقية، قاد مصطفى كمال أتاتورك حملةَ إلغائها في سياق حرب التحرير الوطنية التي أعلنها عام 1919، وانتهت بتوافقات مع الاتحاد السوفياتي وكلّ من فرنسا وإنكلترا، وبمعارك مع اليونان أفضت جميعها إلى «معاهدة لوزان» ورسْم خريطة تركيا الحالية، فيما حُلَّت مشكلة الموصل بضمّها إلى العراق، في عام 1926.
بالنسبة إلى الأكراد، تُشكّل هذه المناسبة ذكرى مرور مئة عام على «المقاومة الكردية» التي «ستتوَّج بنار الحرية»، كما تَذكر صحيفة «أوزغور بوليتيكا» الموالية لـ«حزب العمّال الكردستاني». وتتّهم الصحيفة، إردوغان، بـ«التعاون مع الشيطان من أميركا إلى روسيا»، من أجل هدف واحد، هو «حرمان الأكراد من الحقّ في الحياة وفي الوجود». لكنّ الأكراد، بحسبها، سيطيحون باللعبة التي تُحاك ضدّهم في الشرق الأوسط. ويذكّر حسين تشاووش، في الصحيفة نفسها، بأن مصطفى كمال انقلب على كلّ وعوده أثناء محادثات لوزان، ومنها موافقة البرلمان التركي - في 10 شباط 1922 - على مشروع قانون للحُكم الذاتي للأكراد بغالبية 363 صوتاً مقابل 64 صوتاً. لكنّ البرلمان حُلّ بعدها وجرى انتخاب برلمان جديد، وإنكار حتّى حدوث الجلسة المذكورة. وعندما وُقّعت المعاهدة، بدأ أتاتورك حملة تصفية شاملة للوجود الكردي لغةً وثقافة وديناً وتجارة وصحافة. كذلك، يذكّر الكاتب بما جاء على لسان وزير العدل التركي، محمد أسد بوزكورت، عام 1930، بعد قمع انتفاضة آغري، من أن «التركي هو السيّد والصاحب الوحيد لهذا البلد. إن الذي يعيش في هذا البلد، وليس من العِرق التركي، له حقّ وحيد وهو أن يكون عبداً وخادماً.
يكتسب بدء الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان، أهميةً رمزية وعملية بالغة للتيّار الإسلامي - القومي

ولْيعلم الصديق والعدو وحتى الجبال هذا الأمر». ويعقّب الكاتب بالقول: «فَلْيعلم الصديق والعدو ولْتَعلم الجبال، أن الأبناء الشجعان لأكراد الجبال لن يحنوا رأسهم، ولْيعلم كلّ الظالمين هذه الحقيقة، وهي أن معاهدة لوزان سيكون مصيرها التمزيق». من جهته، يعرض الكاتب في «أوزغور بوليتيكا»، ديمير تشيليك، الوضع من «سيفر» إلى «لوزان»؛ إذ يرى أن الأكراد «كانوا الضحية الأكبر»، كونهم تَوزّعوا على أربع دول «اغتصبت حقوقهم، وعملت على طمس هويّتهم». ويقول تشيليك إن «مثل هذه النتيجة الظالمة، تستوجب أن تُرمى معاهدة لوزان في مزبلة التاريخ»، وأن تستمرّ «المقاومة إلى حين هزيمة خيار المحو والإنكار، وانتصار خيار حرية الشعوب والمعتقد».
لكنّ المنتقد الأكبر للمعاهدة، اليوم، هو نفسه رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان، الذي يرى أن مصطفى كمال تخلّى فيها، كما في اتفاقية أنقرة مع العراق وإنكلترا، عن حدود «الميثاق الملّي» الذي رسمه البرلمان العثماني - بدعمٍ من أتاتورك - ويضمّ كل شمال سوريا وشمال العراق. ولا يرى العلمانيون في اعتبار إردوغان «لوزان» هزيمةً، سوى محاولة لاقتلاع أُسس العلمانية. لذا، قدَّم زعيم «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، كمال كيليتشدار أوغلو، مشروع قانون لإعادة اعتبار توقيع المعاهدة عيداً وطنياً، بعدما كان رئيس الوزراء الأسبق، عدنان مندريس، ألغاه في الخمسينيات. ولم ينتظر إردوغان عام 2023 لمحاولة «استعادة» حدود الميثاق، فهو يعمل لهذه الغاية منذ عام 2016 في سوريا وفي العراق، وليس السجال الأخير بين بغداد وأنقرة حول العمليات العسكرية التركية في الشمال العراقي، ومقتل عدد من المدنيين في منتجع سياحي عراقي في سياق هذه العمليات التي تستهدف «العمّال الكردستاني»، سوى أحد تجلّيات الاشتباك التاريخي بين البلدين حول الحدود النهائية.
ويكتسب بدء الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان، أهمّيةً رمزية وعملية بالغة للتيّار الإسلامي - القومي، الذي يمثّله الآن حزب «العدالة والتنمية» وشريكه حزب «الحركة القومية». ويمكن لهذا التيّار، في حال انتصاره في الانتخابات الرئاسية والنيابية المقبلة، أن يسجّل بداية اندفاعة جديدة لمخطّطات إردوغان، وأن يمنحه زخماً إضافياً، وبتفويض شعبي، خصوصاً أن المعركة السياسية ستكون - كما يُقال - حامية الوطيس. ومن شأن خسارة إردوغان وتيّاره الانتخابات، في المقابل، أن تُحدِث زلزالاً يقلب تركيا رأساً على عقب، في الداخل كما في الخارج، مع احتمال أن تَدْخل البلاد مرحلة من الاضطراب والفتنة وعدم الاستقرار، وفق ما يرى مراقبون. وعليه، فإن العام الأخير من «لوزان»، والذي يتزامن مع نهاية ولاية إردوغان، بالغ الحساسيّة داخلياً، إذ ستكون للأكراد كلمتهم الحاسمة عبر «حزب الشعوب الديموقراطي» الذي تحوّل إلى بيضة قبان التوازنات الداخلية. كما أن الصراع مع العلمانيين وصل إلى ذروته، في ظلّ التهديد الذي يمثّله «العدالة والتنمية» للمكتسبات الأتاتوركية، بل حتى اتّهامه أتاتورك بالتفريط بالحقوق القومية. وسيحمل العام المذكور أيضاً حسابات معقّدة تخصّ علاقات تركيا الخارجية، ولا سيما مع الولايات المتحدة ودول الخليج والجوار الجغرافي من أرمينيا إلى سوريا والعراق، حيث تَنتظر غالبية هذه الدول ما إذا كان إردوغان سيبقى في موقعه أم لا، لتبني على الشيء مقتضاه.